صفحة جزء
الفصل العاشر : الحكم في سب آل البيت والأزواج والأصحاب

وسب آل بيته وأزواجه وأصحابه - صلى الله عليه وسلم - ، وتنقصهم حرام ملعون فاعله .

قال القاضي الشهيد أبو علي - رحمه الله - ، حدثنا أبو الحسين الصيرفي وأبو الفضل العدل ، حدثنا أبو يعلى ، حدثنا أبو علي السنجي ، حدثنا ابن محبوب ، حدثنا الترمذي ، حدثنا محمد بن [ ص: 599 ] يحيى ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا عبيدة بن أبي رابطة ، عن عبد الرحمن بن زياد ، عن عبد الله بن مغفل ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضا بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه .

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تسبوا أصحابي ، فمن سبهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه صرفا ، ولا عدلا .

وقال - صلى الله عليه وسلم - : لا تسبوا أصحابي ، فإنه يجيء قوم في آخر الزمان يسبون أصحابي فلا تصلوا عليهم ، ولا تصلوا معهم ، ولا تناكحوهم ، ولا تجالسوهم ، وإن مرضوا فلا تعودوهم .

وعنه - صلى الله عليه وسلم - : من سب أصحابي فاضربوه .

وقد أعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن سبهم وأذاهم يؤذيه ، وأذى النبي - صلى الله عليه وسلم - حرام ، فقال : لا تؤذوني في أصحابي ، ومن آذاهم فقد آذاني .

وقال : لا تؤذوني في عائشة .

وقال في فاطمة : بضعة مني يؤذيني ما آذاها .

وقد اختلف العلماء في هذا ، فمشهور مذهب مالك في ذلك الاجتهاد والأدب الموجع ، قال مالك - رحمه الله - : من شتم النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل ، ومن شتم أصحابه أدب .

وقال أيضا : من شتم أحدا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - : أبا بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمرو بن العاص ، فإن قال : كانوا على ضلال وكفر قتل ، وإن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس نكل نكالا شديدا .

وقال ابن حبيب : من غلا من الشيعة إلى بغض عثمان والبراءة منه أدب أدبا شديدا ، ومن زاد إلى بغض أبي بكر وعمر فالعقوبة عليه أشد ، ويكرر ضربه ، ويطال سجنه حتى [ ص: 600 ] يموت ، ولا يبلغ به القتل إلا في سب النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وقال سحنون : من كفر أحدا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - : عليا أو عثمان أو غيرهما يوجع ضربا .

وحكى أبو محمد بن أبي زيد ، عن سحنون : من قال في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي : إنهم كانوا على ضلالة وكفر قتل ، ومن شتم غيرهم من الصحابة بمثل ذلك نكل النكال الشديد .

وروي عن مالك : من سب أبا بكر جلد ، ومن سب عائشة قتل . قيل له : لم ؟ قال : من رماها فقد خالف القرآن .

وقال ابن شعبان عنه : لأن الله يقول : يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين [ النور : 17 ] ، فمن عاد لمثله فقد كفر .

وحكى أبو الحسن الصقلي أن القاضي أبا بكر بن الطيب قال : إن الله - تعالى - إذا ذكر في القرآن ما نسبه إليه المشركون سبح نفسه لنفسه ، كقوله : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه [ الأنبياء : 26 ] . . . في آي كثيرة .

وذكر - تعالى - ما نسبه المنافقون إلى عائشة فقال : ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك [ النور : 16 ] سبح نفسه في تبرئتها من السوء ، كما سبح نفسه في تبرئته من السوء .

وهذا يشهد لقول مالك في قتل من سب عائشة .

ومعنى هذا والله أعلم ، أن الله لما عظم سبها كما عظم سبه ، وكان سبها سبا لنبيه ، وقرن سب نبيه ، وأذاه بأذاه - تعالى - ، وكان حكم مؤذيه - تعالى - القتل كان مؤذي نبيه كذلك كما قدمناه .

وشتم رجل عائشة بالكوفة ، فقدم إلى موسى بن عيسى العباسي ، فقال : من حضر هذا ؟ فقال ابن أبي ليلى : أنا ، فجلده ثمانين ، وحلق رأسه ، وأسلمه إلى الحجامين .

وروي عن عمر بن الخطاب أنه نذر قطع لسان عبيد الله بن عمر ، إذ شتم المقداد بن الأسود ، فكلم في ذلك ، فقال : دعوني أقطع لسانه حتى لا يشتم أحد بعد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وروى أبو ذر الهروي أن عمر بن الخطاب أتي بأعرابي يهجو الأنصار ، فقال : لولا أن له صحبة لكفيتكموه .

قال مالك : من انتقص أحدا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فليس له في هذا الفيء حق ، قد قسم الله الفيء في ثلاثة أصناف ، فقال : للفقراء المهاجرين [ الحشر : 8 ] الآية .

ثم قال : والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم [ الحشر : 9 ] الآية . .

وهؤلاء هم الأنصار .

ثم قال : والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان [ الحشر : 10 ] [ ص: 601 ] الآية . فمن تنقصهم فلا حق له في فيء المسلمين .

وفي كتاب ابن شعبان : من قال في واحد منهم إنه ابن زانية ، وأمه مسلمة حد عند بعض أصحابنا حدين : حدا له وحدا لأمه ، ولا أجعله كقاذف الجماعة في كلمة لفضل هذا على غيره ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : من سب أصحابي فاجلدوه قال : ومن قذف أم أحدهم ، وهي كافرة حد حد الفرية ، لأنه سب له ، فإن كان أحد من ولد هذا الصحابي حيا قام بما يجب له ، وإلا فمن قام به من المسلمين كان على الإمام قبول قيامه ، قال : وليس هذا كحقوق غير الصحابة لحرمة هؤلاء بنبيهم - صلى الله عليه وسلم - ، ولو سمعه الإمام ، وأشهد عليه ، كان ولي القيام به ، قال : ومن سب غير عائشة من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ففيها قولان :

أحدهما : يقتل ، لأنه سب النبي - صلى الله عليه وسلم - بسب حليلته .

والآخر : أنها كسائر الصحابة ، يجلد حد المفتري ، قال : وبالأول أقول .

وروى أبو مصعب ، عن مالك فيمن انتسب إلى بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يضرب ضربا وجيعا ، ويشهر ويحبس طويلا حتى تظهر توبته ، لأنه استخفاف بحق الرسول - صلى الله عليه وسلم - .

وأفتى أبو المطرف الشعبي فقيه مالقة في رجل أنكر تحليف امرأة بالليل ، وقال : لو كانت بنت أبي بكر الصديق ما حلفت إلا بالنهار ، وصوب قوله بعض المتسمين بالفقه ، فقال أبو المطرف : ذكر هذا لابنة أبي بكر في مثل هذا يوجب عليه الضرب الشديد والسجن الطويل .

والفقيه الذي صوب قوله أحق باسم الفسق من اسم الفقه ، فيتقدم له في ذلك ، ويزجر ولا تقبل فتواه ولا شهادته ، وهي جرحة ثابتة فيه ، ويبغض في الله .

وقال أبو عمران في رجل قال : لو شهد علي أبو بكر الصديق : أنه إن كان أراد أن شهادته في مثل هذا لا يجوز فيه الشاهد الواحد ، فلا شيء عليه ، وإن كان أراد غير هذا فيضرب ضربا يبلغ به حد الموت ، وذكروها رواية .

قال القاضي أبو الفضل : هنا انتهى القول بنا فيما حررناه ، وانتجز الغرض الذي انتحيناه ، واستوفى الشرط الذي شرطناه ، مما أرجو أن يكون في كل قسم منه للمريد مقنع ، وفي كل باب منهج إلى بغيته ومنزع .

وقد سفرت فيه عن نكت تستغرب وتستبدع ، وكرعت في مشارب من التحقيق [ ص: 602 ] لم يورد لها قبل في أكثر التصانيف مشرع ، وأودعته غير ما فصل وددت لو وجدت من بسط قبلي الكلام فيه ، أو مقتدى يفيدنيه عن كتابه أو فيه ، لأكتفي بما أرويه عما أرويه .

وإلى الله - تعالى - جزيل الضراعة في المنة بقبول ما منه لوجهه ، والعفو عما تخلله من تزين ، وتصنع لغيره ، وأن يهب لنا ذلك بجميل كرمه وعفوه لما أودعناه من شرف مصطفاه وأمين وحيه ، وأسهرنا به جفوننا لتتبع فضائله ، وأعملنا فيه خواطرنا من إبراز خصائصه ووسائله ، ويحمي أعراضنا عن ناره الموقدة لحمايتنا كريم عرضه ، ويجعلنا ممن لا يذاد إذا ذيد المبدل عن حوضه ، ويجعله لنا ولمن تهمم باكتتابه واكتسابه سببا يصلنا بأسبابه ، وذخيرة نجدها يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا نحوز بها رضاه وجزيل ثوابه ، ويخصنا بخصيصى زمرة نبينا وجماعته ، ويحشرنا في الرعيل الأول وأهل الباب الأيمن من أهل شفاعته ، ونحمده - تعالى - على ما هدى إليه من جمعه وألهم وفتح البصيرة لدرك حقائق ما أودعناه وفهم ، ونستعيذه جل اسمه من دعاء لا يسمع وعلم لا ينفع وعمل لا يرفع ، فهو الجواد الذي لا يخيب من أمله ، ولا ينتصر من خذله ، ولا يرد دعوة القاصدين ، ولا يصلح عمل المفسدين ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، وصلاته على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين ، وعلى آله ، وصحبه أجمعين ، وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين .

السابق


الخدمات العلمية