صفحة جزء
الفصل التاسع : ما يتعلق بالمال ، والمتاع

وأما الضرب الثالث : فهو ما تختلف الحالات في التمدح به ، والتفاخر بسببه ، والتفضيل لأجله ، ككثرة المال فصاحبه على الجملة معظم عند العامة ، لاعتقادها توصله به إلى حاجاته ، وتمكن أغراضه بسببه ، وإلا فليس فضيلة في نفسه ، فمتى كان المال بهذه الصورة ، وصاحبه منفقا له في مهمات من اعتراه ، وأمله ، وتصريفه في مواضعه مشتريا به المعالي ، والثناء الحسن ، والمنزلة في القلوب كان فضيلة في صاحبه عند أهل الدنيا ، وإذا صرفه في وجوه البر ، وأنفقه في سبيل الخير ، وقصد بذلك الله ، والدار الآخرة ، كان فضيلة عند الكل بكل حال ، ومتى كان صاحبه ممسكا له غير موجهه وجوهه ، حريصا على جمعه ، عاد كثره كالعدم ، وكان منقصة في صاحبه ، ولم [ ص: 172 ] يقف به على جدد السلامة ، بل أوقعه في هوة رذيلة البخل ، ومذمة النذالة ، فإذا التمدح بالمال ، وفضيلته عند مفضله ليست لنفسه ، وإنما هو للتوصل به إلى غيره ، وتصريفه في متصرفاته ، فجامعه إذا لم يضعه مواضعه ، ولا وجهه وجوهه غير مليء بالحقيقة ، ولا غني بالمعنى ، ولا ممتدح عند أحد من العقلاء ، بل هو فقير أبدا غير واصل إلى غرض من أغراضه ، إذ ما بيده من المال الموصل لها لم يسلط عليه ، فأشبه خازن مال غيره ، ولا مال له ، فكان ليس في يده منه شيء ، والمنفق مليء ، غني بتحصيله فوائد المال ، وإن لم يبق في يده من المال شيء . فانظر سيرة نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، وخلقه في المال تجده قد أوتي خزائن الأرض ، ومفاتيح البلاد ، وأحلت له الغنائم ، ولم تحل لنبي قبله ، وفتح عليه في حياته - صلى الله عليه وسلم - بلاد الحجاز ، واليمن وجميع جزيرة العرب ، وما دانى ذلك من الشام ، والعراق ، وجلبت إليه من أخماسها ، وجزيتها ، وصدقاتها ما لا يجبى للملوك إلا بعضه ، وهادته جماعة من ملوك الأقاليم فما استأثر بشيء منه ، ولا أمسك منه درهما ، بل صرفه مصارفه ، وأغنى به غيره ، وقوى به المسلمين ، وقال : ما يسرني أن لي أحدا ذهبا يبيت عندي منه دينار ، إلا دينارا أرصده لدين . وأتته دنانير مرة فقسمها ، وبقيت منه ستة ، فدفعها لبعض نسائه ، فلم يأخذه نوم حتى قام ، وقسمها ، وقال : الآن استرحت . ومات ، ودرعه مرهونة في نفقة عياله . واقتصر من نفقته ، وملبسه ، ومسكنه على ما تدعو ضرورته إليه . وزهد فيما سواه ، فكان يلبس ما وجده ، فيلبس في الغالب الشملة ، والكساء الخشن ، والبرد الغليظ ، ويقسم على من حضره أقبية الديباج المخوصة بالذهب ، ويرفع لمن لم يحضره ، إذ المباهاة في الملابس ، والتزين بها ليست من خصال الشرف ، والجلالة ، وهي من سمات النساء . والمحمود منها نقاوة الثوب ، والتوسط في جنسه ، وكونه لبس مثله ، غير مسقط لمروءة جنسه مما لا يؤدي إلى الشهرة في الطرفين .

وقد ذم الشرع ذلك ، وغاية الفخر فيه في العادة عند الناس إنما يعود إلى الفخر بكثرة الموجود ، ووفور الحال . وكذلك التباهي بجودة المسكن ، وسعة المنزل ، وتكثير آلاته ، وخدمه ، ومركوباته . ومن ملك الأرض ، وجبي إليه ما فيها ، فترك ذلك زهدا ، وتنزها ، فهو حائز لفضيلة المال ، ومالك للفخر بهذه الخصلة إن كانت فضيلة زائد عليها في الفخر ، ومغرق في المدح بإضرابه عنها ، وزهده في فانيها ، وبذلها في مظانها .

التالي السابق


الخدمات العلمية