صفحة جزء
الفصل الخامس : رؤيته لربه - صلى الله عليه وسلم -

وأما رؤيته - صلى الله عليه وسلم - لربه - جل وعز - فاختلف السلف فيها ، فأنكرته عائشة - رضي الله عنها - .

[ ص: 236 ] [ حدثنا أبو الحسين سراج بن عبد الملك الحافظ بقراءتي عليه ، قال حدثني أبي ، وأبو عبد الله بن عتاب الفقيه ، قالا : حدثنا القاضي يونس بن مغيث ، حدثنا أبو الفضل الصقيلي ، حدثنا ثابت بن قاسم بن ثابت ، عن أبيه ، وجده ، قالا : حدثنا عبد الله بن علي ، حدثنا محمود بن آدم ، حدثنا ، وكيع ، عن ابن أبي خالد ، عن عامر ] عن مسروق أنه قال لعائشة - رضي الله عنها - يا أم المؤمنين ، هل رأى محمد ربه ؟ فقالت : لقد قف شعري مما قلت . ثلاث من حدثك بهن فقد كذب : من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب ، ثم قرأت : لا تدركه الأبصار [ الأنعام : 103 ] ، وذكر الحديث .

وقال جماعة بقول عائشة - رضي الله عنها - ، وهو المشهور عن ابن مسعود .

ومثله عن أبي هريرة أنه قال : إنما رأى جبريل . واختلف عنه وقال بإنكار هذا وامتناع رؤيته في الدنيا جماعة من المحدثين والفقهاء ، والمتكلمين .

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه رآه بعينه . وروى عطاء عنه أنه رآه بقلبه .

وعن أبي العالية ، عنه : رآه بفؤاده مرتين .

وذكر ابن إسحاق أن ابن عمر أرسل إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - يسأله : هل رأى محمد ربه ؟ فقال : نعم .

والأشهر عنه أنه رأى ربه بعينه ، روي ذلك عنه من طرق ، وقال : إن الله - تعالى - اختص موسى بالكلام ، وإبراهيم بالخلة ، ومحمدا بالرؤية ، وحجته قوله - تعالى - : ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى [ النجم : 11 - 13 ] .

قال الماوردي : قيل : إن الله - تعالى - قسم كلامه ، ورؤيته بين موسى ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ، فرآه محمد مرتين ، وكلمه موسى مرتين .

وحكى أبو الفتح الرازي ، وأبو الليث السمرقندي الحكاية عن كعب . وروى [ ص: 237 ] عبد الله بن الحارث ، قال : اجتمع ابن عباس ، وكعب ، فقال ابن عباس : أما نحن بنو هاشم فنقول : إن محمدا قد رأى ربه مرتين ، فكبر كعب حتى جاوبته الجبال ، وقال : إن الله قسم رؤيته ، وكلامه بين محمد وموسى ، فكلمه موسى ورآه محمد بقلبه .

وروى شريك عن أبي ذر - رضي الله عنه - في تفسير الآية ، قال : رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه .

وحكى السمرقندي ، عن محمد بن كعب القرظي ، وربيع بن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل : هل رأيت ربك ؟ قال : رأيته بفؤادي ، ولم أره بعيني .

وروى مالك بن يخامر ، عن معاذ ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : رأيت ربي . . . وذكر كلمة ، فقال : يا محمد ، فيم يختصم الملأ الأعلى الحديث .

وحكى عبد الرزاق أن الحسن كان يحلف بالله لقد رأى محمد ربه .

وحكاه أبو عمر الطلمنكي عن عكرمة .

وحكى بعض المتكلمين هذا المذهب عن ابن مسعود .

وحكى ابن إسحاق أن مروان سأل أبا هريرة . هل رأى محمد ربه ؟ فقال : نعم .

وحكى النقاش ، عن أحمد بن حنبل : أنه قال : أنا أقول بحديث ابن عباس بعينه رآه رآه حتى انقطع نفسه يعني نفس أحمد .

وقال أبو عمر : قال أحمد بن حنبل : رآه بقلبه ، وجبن [ ص: 238 ] عن القول برؤيته في الدنيا بالأبصار .

وقال سعيد بن جبير : لا أقول رآه ، ولا لم يره .

وقد اختلف في تأويل الآية عن ابن عباس ، وعكرمة ، والحسن ، وابن مسعود ، فحكي عن ابن عباس ، وعكرمة : رآه بقلبه . وعن الحسن ، وابن مسعود : رأى جبريل . وحكى عبد الله بن أحمد بن حنبل ، عن أبيه ، أنه قال : رآه .

وعن ابن عطاء في قوله - تعالى - : ألم نشرح لك صدرك [ الشرح : 1 ] قال : شرح صدره للرؤية ، وشرح صدر موسى للكلام .

وقال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري - رضي الله عنه - ، وجماعة من أصحابه أنه رأى الله - تعالى - ببصره ، وعيني رأسه ، وقال : كل آية أوتيها نبي من الأنبياء - عليهم السلام - فقد أوتي مثلها نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، وخص من بينهم بتفضيل الرؤية .

ووقف بعض مشايخنا في هذا وقال : ليس عليه دليل واضح ، ولكنه جائز أن يكون .

قال القاضي أبو الفضل وفقه الله : والحق الذي لا امتراء فيه أن رؤيته - تعالى - في الدنيا جائزة عقلا ، وليس في العقل ما يحيلها .

والدليل على جوازها في الدنيا سؤال موسى - عليه السلام - لها . ومحال أن يجهل نبي ما يجوز على الله ، وما لا يجوز عليه ، بل لم يسأل إلا جائزا غير مستحيل ، ولكن وقوعه ، ومشاهدته من الغيب الذي لا يعلمه إلا من علمه الله ، فقال له الله - تعالى - : لن تراني [ الأعراف : 142 ] ، أي لن تطيق ، ولا تحتمل رؤيتي ، ثم ضرب له مثلا مما هو أقوى من بنية موسى ، وأثبت ، وهو الجبل .

وكل هذا ليس فيه ما يحيل رؤيته في الدنيا ، بل فيه جوازها على الجملة ، وليس في الشرح دليل قاطع على استحالتها ، ولا امتناعها ، إذ كل موجود فرؤيته جائزة غير مستحيلة .

ولا حجة لمن استدل على منعها بقوله - تعالى - : لا تدركه الأبصار [ الأنعام : 103 ] ، لاختلاف التأويلات في الآية ، وإذ ليس يقتضي قول من قال في الدنيا الاستحالة .

وقد استدل بعضهم بهذه الآية نفسها على جواز الرؤية ، وعدم استحالتها على الجملة .

وقد قيل : لا تدركه أبصار الكفار ، وقيل : لا تدركه الأبصار [ الأنعام : 103 ] لا تحيط به ، وهو قول ابن عباس . وقد قيل : لا تدركه الأبصار ، وإنما يدركه المبصرون .

وكل هذه التأويلات لا تقتضي منع الرؤية ، ولا استحالتها . وكذلك لا حجة لهم بقوله - تعالى - : لن تراني [ الأعراف : 142 ] . وقوله : تبت إليك [ الأعراف : 143 ] لما قدمناه ، ولأنها [ ص: 239 ] ليست على العموم ، ولأن من قال : معناها : لن تراني في الدنيا إنما هو تأويل .

وأيضا فليس فيه نص الامتناع ، وإنما جاءت في حق موسى ، وحيث تتطرق التأويلات ، وتتسلط الاحتمالات ، فليس للقطع إليه سبيل .

وقوله : تبت إليك أي من سؤالي ما لم تقدره لي .

وقد قال أبو بكر الهذلي في قوله : لن تراني أي ليس لبشر أن يطيق أن ينظر إلي في الدنيا ، وأنه من نظر إلي مات .

وقد رأيت لبعض السلف ، والمتأخرين ما معناه : أن رؤيته - تعالى - في الدنيا ممتنعة ، لضعف تركيب أهل الدنيا وقواهم وكونها متغيرة غرضا للآفات ، والفناء ، فلم تكن لهم قوة على الرؤية ، فإذا كان في الآخرة ، وركبوا تركيبا آخر ، ورزقوا قوى ثابتة باقية ، وأتم أنوار أبصارهم وقلوبهم قووا بها على الرؤية .

وقد رأيت نحو هذا لمالك بن أنس - رحمه الله - ، قال : لم ير في الدنيا ، لأنه باق ، ولا يرى الباقي بالفاني ، فإذا كان في الآخرة ، ورزقوا أبصارا باقية رئي الباقي بالباقي .

وهذا كلام حسن مليح ، وليس فيه دليل على الاستحالة إلا من حيث ضعف القدرة ، فإذا قوى الله - تعالى - من شاء من عباده ، وأقدره على حمل أعباء الرؤية لم تمتنع في حقه .

وقد تقدم ما ذكر في قوة بصر موسى ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ، ونفوذ إدراكها بقوة إلهية منحها لإدراك ما أدركاه ، ورؤية ما رأياه . والله أعلم .

وقد ذكر القاضي أبو بكر في أثناء أجوبته عن الآيتين ما معناه : إن موسى - عليه السلام - رأى الله ، فلذلك خر صعقا ، وأن الجبل رأى ربه فصار دكا بإدراك خلقه الله له ، واستنبط ذلك ، والله أعلم ، من قوله : ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني [ الأعراف : 143 ] . ثم قال : [ ص: 240 ] فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا [ الأعراف : 143 ] .

وتجليه للجبل هو ظهوره له حتى رآه على هذا القول .

وقال جعفر بن محمد : شغله بالجبل حتى تجلى ، ولولا ذلك لمات صعقا بلا إفاقة .

وقوله هذا يدل على أن موسى رآه .

وقد وقع لبعض المفسرين في الجبل أنه رآه ، وبرؤية الجبل له استدل من قال برؤية محمد نبينا له ، إذ جعله دليلا على الجواز . ولا مرية في الجواز ، إذ ليس في الآيات نص بالمنع .

وأما وجوبه لنبينا - صلى الله عليه وسلم - ، والقول بأنه رآه بعينه فليس فيه قاطع أيضا ، ولا نص إذ المعول فيه على آيتي [ النجم ] ، والتنازع فيهما مأثور ، والاحتمال لهما ممكن ، ولا أثر قاطع متواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك .

وحديث ابن عباس خبر عن اعتقاده لم يسنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فيجب العمل باعتقاد مضمنه .

ومثله حديث أبي ذر في تفسير الآية .

وحديث معاذ محتمل للتأويل ، وهو مضطرب الإسناد ، والمتن .

وحديث أبي ذر مختلف محتمل مشكل . فروي : [ نور أنى أراه ] .

وحكى بعض شيوخنا أنه روي [ نوراني أراه ] .

وفي حديثه الآخر : سألته ، فقال : [ رأيت نورا ] ، وليس يمكن الاحتجاج بواحد منها على صحة الرؤية ، فإن كان الصحيح رأيت نورا فهو قد أخبر أنه لم ير الله ، وإنما رأى نورا منعه ، وحجبه عن رؤية الله .

وإلى هذا يرجع قوله : [ نوراني أراه ] أي كيف أراه مع حجاب النور المغشي للبصر ، وهذا مثل باقي الحديث الآخر : حجابه النور .

وفي [ ص: 241 ] الحديث الآخر : لم أره بعيني ، ولكن رأيته بقلبي مرتين ، وتلا : ثم دنا فتدلى [ النجم : 8 ] والله قادر على خلق الإدراك الذي في البصر في القلب ، أو كيف شاء ، لا إله غيره .

فإن ورد حديث نص بين في الباب اعتقد ووجب المصير إليه ، إذ لا استحالة فيه ، ولا مانع قطعي يرده ، والله الموفق للصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية