صفحة جزء
[ ص: 251 ] الفصل العاشر : في تفضيله - صلى الله عليه وسلم - بالشفاعة ، والمقام المحمود

قال الله - تعالى - : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [ الإسراء : 79 ] .

[ أخبرنا الشيخ أبو علي الغساني الجياني فيما كتب إلي بخطه ، حدثنا سراج بن عبد الله القاضي ، حدثنا أبو محمد الأصيلي ، حدثنا أبو زيد ، وأبو أحمد ، قالا : حدثنا محمد بن يوسف ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبان حدثنا أبو الأحوص ] ، عن آدم بن علي ، قال : سمعت ابن عمر يقول : إن الناس يصيرون يوم القيامة جثى ، كل أمة تتبع نبيها ، يقولون : يا فلان اشفع لنا ، يا فلان اشفع لنا ، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود .

وعن أبي هريرة : سئل عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني قوله : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [ الإسراء : 79 ] ، فقال : الشفاعة .

وروى كعب بن مالك ، عنه - صلى الله عليه وسلم - : يحشر الناس يوم القيامة فأكون أنا ، وأمتي على تل ، ويكسوني ربي حلة خضراء ، ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول ، فذلك المقام المحمود .

وعن ابن عمر - رضي الله عنه - ، وذكر حديث الشفاعة قال : فيمشي حتى يأخذ بحلقة الجنة ، فيومئذ يبعثه الله المقام المحمود الذي وعده .

وعن ابن مسعود عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قيامه عن يمين العرش مقاما لا يقومه غيره ، يغبطه فيه الأولون ، والآخرون .

ونحوه عن كعب ، والحسن .

وفي رواية : هو المقام الذي أشفع لأمتي فيه .

[ ص: 252 ] وعن ابن مسعود ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إني لقائم المقام المحمود . قيل : وما هو ؟ قال : ذلك يوم ينزل الله تبارك وتعالى على كرسيه الحديث .

وعن أبي موسى - رضي الله عنه - ، عنه - صلى الله عليه وسلم - : خيرت بين أن يدخل نصف أمتي الجنة ، وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة ، لأنها أعم ، أترونها للمتقين ؟ ولكنها للمذنبين الخطائين .

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال : قلت : يا رسول الله ، ماذا ورد عليك في الشفاعة ؟ فقال : شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصا ، يصدق لسانه قلبه .

وعن أم حبيبة ، قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أريت ما تلقى أمتي من بعدي ، وسفك بعضهم دماء بعض ، وسبق لهم من الله ما سبق لأمم قبلهم ، فسألت الله أن يؤتيني شفاعة يوم القيامة فيهم ، ففعل .

وقال حذيفة : يجمع الله الناس ، في صعيد واحد حيث يسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر ، حفاة عراة كما خلقوا ، سكوتا لا تكلم نفس إلا بإذنه ، فينادى محمد فيقول : لبيك ، وسعديك ، والخير في يديك ، والشر ليس إليك ، والمهتدي من هديت ، وعبدك بين يديك ، ولك وإليك ، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك ، تباركت وتعاليت ، سبحانك رب البيت قال : فذلك المقام المحمود الذي ذكر الله .

وقال ابن عباس - رضي الله عنه - : إذا دخل أهل النار النار ، وأهل الجنة الجنة ، فتبقى آخر زمرة من الجنة ، وآخر زمرة من النار ، فتقول زمرة النار لزمرة الجنة : ما نفعكم إيمانكم ، فيدعون [ ص: 253 ] ربهم ، ويضجون ، فيسمعهم أهل الجنة فيسألون آدم ، وغيره بعده في الشفاعة لهم ، فكل يعتذر حتى يأتوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، فيشفع لهم ، فذلك المقام المحمود .

ونحوه عن ابن مسعود أيضا ، ، ومجاهد .

وذكره علي بن الحسين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وقال جابر بن عبد الله ليزيد الفقير : سمعت بمقام محمد يعني الذي يبعثه الله فيه ؟ قال : قلت : نعم . قال : فإنه مقام محمد المحمود الذي يخرج الله به من يخرج يعني من النار ، وذكر حديث الشفاعة في إخراج الجهنميين .

وعن أنس نحوه ، وقال : فهذا المقام المحمود الذي وعده .

وفي رواية أنس ، وأبي هريرة ، وغيرهما ، دخل حديث بعضهم في حديث بعض : قال - صلى الله عليه وسلم - : يجمع الله الأولين ، والآخرين يوم القيامة فيهتمون أو قال : فيلهمون فيقولون : لو استشفعنا إلى ربنا .

ومن طريق آخر ، عنه : ماج الناس بعضهم في بعض .

وعن أبي هريرة : وتدنو الشمس ، فيبلغ الناس من الغم ما لا يطيقون ، ولا يحتملون ، فيقولون : ألا تنظرون من يشفع لكم ، فيأتون آدم فيقولون ، زاد بعضهم : أنت آدم أبو البشر ، خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأسكنك جنته ، وأسجد لك ملائكته ، وعلمك أسماء كل شيء ، اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ .

[ ص: 254 ] فيقول : إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب مثله ، ولا يغضب بعده مثله ، ونهاني عن الشجرة فعصيت ، نفسي ، نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى نوح .

فيأتون نوحا فيقولون : أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ، وسماك الله عبدا شكورا ، ألا ترى ما نحن فيه ، ألا ترى ما بلغنا ؟ ! ألا تشفع لنا إلى ربك ؟ فيقول : إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولا يغضب بعده مثله ، نفسي ! نفسي !

قال في رواية أنس : ويذكر خطيئته التي أصاب : سؤاله ربه بغير علم .

وفي رواية أبي هريرة - رضي الله عنه - : وقد كانت لي دعوة دعوتها على قومي ، اذهبوا إلى غيري . اذهبوا إلى إبراهيم ، فإنه خليل الله .

فيأتون إبراهيم ، فيقولون : أنت نبي الله ، وخليله من أهل الأرض ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟

فيقول : إن ربي قد غضب اليوم غضبا . . . فذكر مثله ، ويذكر ثلاث كلمات كذبهن . نفسي ، نفسي ، لست لها ، ولكن عليكم بموسى ، فإنه كليم الله .

وفي رواية : فإنه عبد آتاه الله التوراة ، وكلمه ، وقربه نجيا .

قال : فيأتون موسى ، فيقول : لست لها ، ويذكر خطيئته التي أصاب ، وقتله النفس ، نفسي نفسي ، ولكن عليكم بعيسى ، فإنه روح الله ، وكلمته .

فيأتون عيسى ، فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بمحمد ، عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه ، وما تأخر .

فأوتى ، فأقول : أنا لها . فأنطلق فأستأذن على ربي ، فيؤذن لي ، فإذا رأيته ، وقعت ساجدا .

وفي رواية : فآتي تحت العرش ، فأخر ساجدا .

وفي رواية : فأقوم بين يديه ، فأحمد بمحامد لا أقدر عليها إلا أن يلهمنيها الله .

وفي رواية : فيفتح الله علي من محامده ، وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي .

قال في رواية أبي هريرة : فيقال : يا محمد ، ارفع رأسك ، سل تعطه ، واشفع تشفع . فأرفع رأسي ، فأقول : يا رب أمتي ، يا رب أمتي . فيقول : أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة ، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب .

ولم يذكر في رواية أنس هذا الفصل ، وقال مكانه : ثم أخر ساجدا ، فيقال لي : يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، واشفع تشفع ، وسل تعطه . فأقول : يا رب أمتي أمتي . فيقال : انطلق ، فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه ، فأنطلق فأفعل . ثم [ ص: 255 ] أرجع إلى ربي ، فأحمده بتلك المحامد وذكر مثل الأول ، وقال فيه : مثقال حبة من خردل . قال : فأفعل ، ثم أرجع . . . وذكر مثل ما تقدم ، وقال فيه : من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل ، فأفعل .

وذكر في المرة الرابعة : فيقال لي : ارفع رأسك ، وقل يسمع لك ، واشفع تشفع ، وسل تعطه . فأقول : يا رب ، ائذن لي فيمن قال : لا إله إلا الله . قال : ليس ذلك إليك . ولكن ، وعزتي ، وكبريائي ، وعظمتي ، وجبريائي لأخرجن من النار من قال : لا إله إلا الله .

ومن رواية قتادة عنه ، قال : فأقول يا رب ، ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن أي وجب عليه الخلود
.

وعن أبي بكر ، وعقبة بن عامر ، وأبي سعيد ، وحذيفة مثله ، قال : فيأتون محمدا فيؤذن له ، وتأتي الأمانة ، والرحم فتقومان جنبتي الصراط .

وذكر في رواية أبي مالك ، عن حذيفة : فيأتون محمدا فيشفع ، فيضرب الصراط فيمرون : أولهم كالبرق ، ثم كالريح ، والطير ، وشد الرجال ، ونبيكم - صلى الله عليه وسلم - على الصراط يقول : اللهم سلم سلم ، حتى يجتاز الناس . وذكر آخرهم جوازا . . . الحديث .

وفي رواية أبي هريرة : فأكون أول من يجيز .

وعن ابن عباس ، عنه - صلى الله عليه وسلم - : يوضع للأنبياء منابر يجلسون عليها ، ويبقى منبري لا أجلس عليه قائما ، بين يدي ربي منتصبا ، فيقول الله - تبارك وتعالى - : ما تريد بأمتك ؟ فأقول : يا رب ، عجل حسابهم ، فيدعى بهم ، فيحاسبون . فمنهم من يدخل برحمته ، ومنهم من يدخل الجنة بشفاعتي ، ولا أزال أشفع حتى أعطى صكاكا برجال قد أمر بهم إلى النار ، حتى إن خازن النار ليقول : يا محمد ، ما تركت لغضب ربك في أمتك من نقمة .

ومن طريق زياد النميري ، عن [ ص: 256 ] أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أنا أول من تنفلق الأرض عن جمجمته ، ولا فخر ، وأنا سيد الناس يوم القيامة ، ولا فخر ، ومعي لواء الحمد يوم القيامة ، وأنا أول من تفتح له الجنة ، ولا فخر ، فآتي فآخذ بحلقة الجنة ، فيقال : من هذا ؟ فأقول : محمد ، فيفتح لي ، فيستقبلني الجبار - تعالى - ، فأخر له ساجدا . . . وذكر نحو ما تقدم .

ومن رواية أنيس : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لأشفعن يوم القيامة لأكثر مما في الأرض من حجر ، وشجر .

فقد اجتمع من اختلاف ألفاظ هذه الآثار أن شفاعته - صلى الله عليه وسلم - ، ومقامه المحمود من أول الشفاعات إلى آخرها ، من حين يجتمع الناس للحشر ، وتضيق بهم الحناجر ، ويبلغ منهم العرق ، والشمس ، والوقوف مبلغه ، وذلك قبل الحساب ، فيشفع حينئذ لإراحة الناس من الموقف ، ثم يوضع الصراط ، ويحاسب الناس ، كما جاء في الحديث عن أبي هريرة ، وحذيفة .

وهذا الحديث أتقن ، فيشفع في تعجيل من لا حساب عليه من أمته إلى الجنة كما تقدم في الحديث ثم يشفع فيمن وجب عليه العذاب ، ودخل النار منهم حسب ما تقتضيه الأحاديث الصحيحة ، ثم فيمن قال : لا إله إلا الله . وليس هذا لسواه - صلى الله عليه وسلم - .

وفي الحديث المنتشر الصحيح : لكل نبي دعوة يدعو بها ، واختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة .

قال أهل العلم : معناه دعوة أعلم أنها تستجاب لهم ، ويبلغ فيها مرغوبهم ، وإلا فكم لكل نبي منهم من دعوة مستجابة ، ولنبينا - صلى الله عليه وسلم - منها ما لا يعد ، لكن حالهم عند الدعاء بها بين الرجاء ، والخوف ، وضمنت لهم إجابة دعوة فيما شاءوه يدعون بها على يقين من الإجابة .

وقد قال محمد بن زياد ، وأبو صالح ، عن أبي هريرة في هذا الحديث : لكل نبي دعوة دعا بها في أمته ، فاستجيب له ، وأنا أريد أن أدخر دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة .

وفي رواية أبي صالح : لكل نبي دعوة مستجابة ، فتعجل كل نبي دعوته .

ونحوه في رواية أبي زرعة عن أبي هريرة .

وعن أنس مثل رواية ابن [ ص: 257 ] زياد ، عن أبي هريرة .

فتكون هذه الدعوة المذكورة مخصوصة بالأمة مضمونة الإجابة ، وإلا فقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه سأل لأمته أشياء من أمور الدين ، والدنيا ، وأعطي بعضها ، ومنع بعضها ، وادخر لهم هذه الدعوة ليوم الفاقة ، وخاتمة المحن ، وعظيم السؤال ، والرغبة .

جزاه الله أحسن ما جزى نبيا عن أمته ، وصلى الله عليه وسلم كثيرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية