مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

وتأمل ارتباط الخلق والأمر بهذه الأسماء الثلاثة ، وهي الله ، والرب ، والرحمن كيف نشأ عنها الخلق ، والأمر ، والثواب ، والعقاب ؟ وكيف جمعت الخلق وفرقتهم ؟ فلها الجمع ، ولها الفرق .

[ ص: 58 ] فاسم الرب له الجمع الجامع لجميع المخلوقات ، فهو رب كل شيء وخالقه ، والقادر عليه ، لا يخرج شيء عن ربوبيته ، وكل من في السماوات والأرض عبد له في قبضته ، وتحت قهره ، فاجتمعوا بصفة الربوبية ، وافترقوا بصفة الإلهية ، فألهه وحده السعداء ، وأقروا له طوعا بأنه الله الذي لا إله إلا هو ، الذي لا تنبغي العبادة والتوكل ، والرجاء والخوف ، والحب والإنابة والإخبات والخشية ، والتذلل والخضوع إلا له .

وهنا افترق الناس ، وصاروا فريقين : فريقا مشركين في السعير ، وفريقا موحدين في الجنة .

فالإلهية هي التي فرقتهم ، كما أن الربوبية هي التي جمعتهم .

فالدين والشرع ، والأمر والنهي مظهره ، وقيامه من صفة الإلهية ، والخلق والإيجاد والتدبير والفعل من صفة الربوبية ، والجزاء بالثواب والعقاب والجنة والنار من صفة الملك ، وهو ملك يوم الدين ، فأمرهم بإلهيته ، وأعانهم ووفقهم وهداهم وأضلهم بربوبيته ، وأثابهم وعاقبهم بملكه وعدله ، وكل واحدة من هذه الأمور لا تنفك عن الأخرى .

وأما الرحمة فهي التعلق ، والسبب الذي بين الله وبين عباده ، فالتأليه منهم له ، والربوبية منه لهم ، والرحمة سبب واصل بينه وبين عباده ، بها أرسل إليهم رسله ، وأنزل عليهم كتبه ، وبها هداهم ، وبها أسكنهم دار ثوابه ، وبها رزقهم وعافاهم وأنعم عليهم ، فبينهم وبينه سبب العبودية ، وبينه وبينهم سبب الرحمة .

واقتران ربوبيته برحمته كاقتران استوائه على عرشه برحمته ، ف الرحمن على العرش استوى مطابق لقوله رب العالمين الرحمن الرحيم فإن شمول الربوبية وسعتها بحيث لا يخرج شيء عنها أقصى شمول الرحمة وسعتها ، فوسع كل شيء برحمته وربوبيته ، مع أن في كونه ربا للعالمين ما يدل على علوه على خلقه ، وكونه فوق كل شيء ، كما يأتي بيانه إن شاء الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية