مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل توبة الأوساط

قال : وتوبة الأوساط من استقلال العبد المعصية ، وهو عين الجرأة والمبارزة ، ومحض التزين بالحمية ، والاسترسال للقطيعة .

يريد أن استقلال المعصية ذنب ، كما أن استكثار الطاعة ذنب ، والعارف من صغرت حسناته في عينه ، وعظمت ذنوبه عنده ، وكلما صغرت الحسنات في عينك كبرت عند الله ، وكلما كبرت وعظمت في قلبك قلت وصغرت عند الله ، وسيئاتك بالعكس ، ومن عرف الله وحقه وما ينبغي لعظمته من العبودية تلاشت حسناته عنده ، وصغرت جدا في عينه ، وعلم أنها ليست مما ينجو بها من عذابه ، وأن الذي يليق بعزته ، ويصلح له من العبودية أمر آخر ، وكلما استكثر منها استقلها واستصغرها ، لأنه كلما استكثر منها فتحت له أبواب المعرفة بالله والقرب منه ، فشاهد قلبه من عظمته سبحانه وجلاله ما يستصغر معه جميع أعماله ، ولو كانت أعمال الثقلين ، وإذا كثرت في عينه وعظمت دل على [ ص: 277 ] أنه محجوب عن الله ، غير عارف به وبما ينبغي له ، وبحسب هذه المعرفة ومعرفته بنفسه يستكثر ذنوبه وتعظم في عينه ، لمشاهدته الحق ومستحقه ، وتقصيره في القيام به ، وإيقاعه على الوجه اللائق الموافق لما يحبه الرب ويرضاه من كل وجه .

إذا عرف هذا ، فاستقلال العبد المعصية عين الجرأة على الله ، وجهل بقدر من عصاه وبقدر حقه ، وإنما كان مبارزة لأنه إذا استصغر المعصية واستقلها هان عليه أمرها ، وخفت على قلبه ، وذلك نوع مبارزة .

وأما قوله : ومحض التزين بالحمية ، أي بالمحاماة عن النفس ، وإظهار براءة ساحتها ، لا سيما إن انضاف إلى ذلك مشاهدة الحقيقة ، والاحتجاج بالقدر ، وقوله : وأي ذنب لي ، والمحرك لي غيري ، والفاعل في سواي ؟ وإنما أنا كالميت بين يدي الغاسل ؟ وما حيلة من ليس له حيلة ، وما قدرة من ليس له قدرة ؟ ونحو هذا مما يتضمن الجرأة على الله ومبارزته ، والمحاماة عن النفس ، واستصغار ذنوبه ومعاصيه إذا أضافها إلى الحكم ، فيسترسل إذا للقطيعة وهي المقاطعة لربه والانقطاع عنه ، فيصير خصما لله مع نفسه وشيطانه ، وهذا حال المحتجين بالقدر على الذنوب ، فإنهم خصماء الله عز وجل وهم مع الشياطين والنفوس على الله ، وهذا غاية البعد والطرد والانقطاع عن الله ؟ .

فإن قلت : فكيف كانت توبة العامة من استكثار الطاعات ؟ وتوبة من هم أخص منهم ، وأعلى درجة من استقلال المعصية ؟ وهلا كان الأمر بالضد ؟ .

قلت : الأوساط لما كانوا أشد طلبا لعيوب النفس والعمل ، وأكثر تفتيشا عليها انكشف لهم من ذنوبهم ومعاصيهم ما لم ينكشف للعامة ، وحرص هؤلاء على تنقية أنفسهم من الآفات ، والتفتيش على عيوب الأعمال ، فاستقلال السيئات آفة هؤلاء ، وقاطع طريقهم ، واستكثار الحسنات وعظمها في قلوب أولئك آفتهم ، وقاطع طريقهم ، فذكر ما هو الأخص الأغلب على كل واحدة من الطائفتين .

التالي السابق


الخدمات العلمية