مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل توبة الخواص

قال : وتوبة الخواص من تضييع الوقت ، فإنه يفضي إلى درك النقيصة ، ويطفئ نور المراقبة ، ويكدر عين الصحبة .

[ ص: 278 ] ليس مراده بتضييع الوقت إضاعته في الاشتغال بمعصية أو لغو ، أو الإعراض عن واجبه وفرضه ، فإنهم لو أضاعوه بهذا المعنى لم يكونوا من الخواص ، بل هذه توبة العامة بعينها ، والوقت عند القوم أخص منه في لغة العرب ، حتى إن منهم من يقول : الوقت هو الحق ، ومنهم من يقول : استغراق رسم العبد في وجود الحق ، يشيرون إلى الفناء في حضرة الجمع ، والغالب على اصطلاحهم أنه من الإقبال على الله بالمراقبة ، والحضور والفناء في الوحدانية ، ويقولون : هو صاحب وقت مع الله ، فخصوا الوقت بهذا الاسم تخصيصا للفظ العام ببعض أفراده ، وإلا فكل من هو مشغول بأمر يعنى به فان في شهوده وطلبه ، فله وقت معه ، بل أوقاته مستغرقة فيه .

فتوبة هؤلاء من إضاعة هذا الوقت الخاص الذي هو وقت وجد صادق ، وحال صحيحة مع الله لا يكدرها الأغيار .

وربما يمر بك إشباع القول في الوقت والفرق بين الصحيح منه والفاسد فيما بعد إن شاء الله .

والقصد أن إضاعة الوقت الصحيح يدعو إلى درك النقيصة ، إذ صاحب حفظه مترق على درجات الكمال ، فإذا أضاعه لم يقف موضعه ، بل ينزل إلى درجات من النقص ، فإن لم يكن في تقدم فهو متأخر ولا بد ، فالعبد سائر لا واقف ، فإما إلى فوق ، وإما إلى أسفل ، إما إلى أمام وإما إلى وراء ، وليس في الطبيعة ولا في الشريعة وقوف البتة ، ما هو إلا مراحل تطوى أسرع طي إلى الجنة أو النار ، فمسرع ومبطئ ، ومتقدم ومتأخر ، وليس في الطريق واقف البتة ، وإنما يتخالفون في جهة المسير ، وفي السرعة والبطء إنها لإحدى الكبر نذيرا للبشر لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر ولم يذكر واقفا ، إذ لا منزل بين الجنة والنار ، ولا طريق لسالك إلى غير الدارين البتة ، فمن لم يتقدم إلى هذه بالأعمال الصالحة فهو متأخر إلى تلك بالأعمال السيئة .

فإن قلت : كل مجد في طلب شيء لا بد أن يعرض له وقفة وفتور ، ثم ينهض إلى طلبه .

قلت : لا بد من ذلك ، ولكن صاحب الوقفة له حالان : إما أن يقف ليجم نفسه ، ويعدها للسير ، فهذا وقفته سير ، ولا تضره الوقفة ، فإن لكل عمل شرة ، ولكل شرة فترة .

[ ص: 279 ] وإما أن يقف لداع دعاه من ورائه ، وجاذب جذبه من خلفه ، فإن أجابه أخره ولا بد ، فإن تداركه الله برحمته ، وأطلعه على سبق الركب له وعلى تأخره ، نهض نهضة الغضبان الآسف على الانقطاع ، ووثب وجمز واشتد سعيا ليلحق الركب ، وإن استمر مع داعي التأخر ، وأصغى إليه لم يرض برده إلى حالته الأولى من الغفلة ، وإجابة داعي الهوى ، حتى يرده إلى أسوأ منها وأنزل دركا ، وهو بمنزلة النكسة الشديدة عقيب الإبلال من المرض ، فإنها أخطر منه وأصعب .

وبالجملة فإن تدارك الله سبحانه وتعالى هذا العبد بجذبة منه من يد عدوه وتخليصه ، وإلا فهو في تأخر إلى الممات ، راجع القهقرى ، ناكص على عقبيه ، أو مول ظهره ، ولا قوة إلا بالله ، والمعصوم من عصمه الله .

وقوله : ويطفئ نور المراقبة .

يعني أن المراقبة تعطي نورا كاشفا لحقائق المعرفة والعبودية ، وإضاعة الوقت تغطي ذلك النور ، وتكدر عين الصحبة مع الله ، فإن صاحب الوقت مع صحبة الله ، وله مع الله معية خاصة ، بحسب حفظه وقته مع الله ، فإن كان مع الله كان الله معه ، فإذا أضاع وقته كدر عين هذه المعية الخاصة ، وتعرض لقطع هذه الصحبة ، فلا شيء أضر على العارف بالله من إضاعة وقته مع الله ، ويخشى عليه إن لم يتداركه بالرجوع أن تستمر الإضاعة إلى يوم القيامة ، فتكون حسرته وندامته أعظم من حسرة غيره وندامته ، وحجابه عن الله أشد من حجاب من سواه ، ويكون حاله شبيها بحال قوم يؤمر بهم إلى الجنة ، حتى إذا عاينوها وشاهدوا ما فيها ، صرفت وجوههم عنها إلى النار ، فإذن توبة الخواص تكون من تضييع أوقاتهم مع الله التي تدعو إلى هذه الأمور .

التالي السابق


الخدمات العلمية