مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل ومن أحكامها أن من توغل في ذنب ، وعزم على التوبة منه ، ولا يمكنه التوبة منه إلا بارتكاب بعضه ، كمن أولج في فرج حرام ، ثم عزم على التوبة قبل النزع الذي هو جزء الوطء ، وكمن توسط أرضا مغصوبة ، ثم عزم على التوبة ، ولا يمكنه إلا بالخروج ، الذي هو مشي فيها وتصرف ، فكيف يتوب من الحرام بحرام مثله ؟ وهل تعقل التوبة من الحرام بحرام ؟ .

فهذا مما أشكل على بعض الناس ، حتى دعاه ذلك إلى أن قال بسقوط التكليف عنه في هذا الفعل الذي يتخلص به من الحرام .

قال : لأنه لا يمكن أن يكون مأمورا به وهو حرام ، وقد تعين في حقه طريقا للخلاص من الحرام ، لا يمكنه التخلص بدونه ، فلا حكم في هذا الفعل البتة ، وهو بمنزلة العفو الذي لا يدخل تحت التكليف .

وقالت طائفة : بل هو حرام واجب ، فهو ذو وجهين ، مأمور به من أحدهما ، منهي عنه من الآخر ، فيؤمر به من حيث تعينه طريقا للخلاص من الحرام ، وهو من هذا الوجه واجب ، وينهى عنه من جهة كونه مباشرة للحرام ، وهو من هذا الوجه محرم ، فيستحق عليه الثواب والعقاب .

قالوا : ولا يمتنع كون الفعل في الشرع ذا وجهين مختلفين ، كالاشتغال عن الحرام بمباح ، فإن المباح إذا نظرنا إلى ذاته - مع قطع النظر عن ترك الحرام - قضينا بإباحته ، وإذا اعتبرناه من جهة كونه تاركا للحرام كان واجبا .

نعم ، غايته أنه لا يتعين مباح دون مباح ، فيكون واجبا مخيرا .

قالوا : وكذلك الصلاة في الدار المغصوبة ، هي حرام ، وهي واجبة ، وستر العورة بثوب الحرير كذلك حرام واجب ، من وجهين مختلفين .

[ ص: 298 ] والصواب أن هذا النزع والخروج من الأرض توبة ليس بحرام ، إذ هو مأمور به ، ومحال أن يؤمر بالحرام ، وإنما كان النزع - الذي هو جزء الوطء - حراما بقصد التلذذ به ، وتكميل الوطء ، وأما النزع الذي يقصد به مفارقة الحرام ، وقطع لذة المعصية ، فلا دليل على تحريمه ، لا من نص ولا إجماع ولا قياس صحيح يستوي فيه الأصل والفرع في علة الحكم .

ومحال خلو هذه الحادثة عن حكم الله فيها ، وحكمه فيها الأمر بالنزع قطعا ، وإلا كانت الاستدامة مباحة ، وذلك عين المحال ، وكذلك الخروج من الأرض المغصوبة مأمور به ، وإنما تكون الحركة والتصرف في ملك الغير حراما إذا كان على وجه الانتفاع بها ، المتضمن لإضرار مالكها ، أما إذا كان القصد ترك الانتفاع ، وإزالة الضرر عن المالك ، فلم يحرم الله ولا رسوله ذلك ، ولا دل على تحريمه نظر صحيح ، ولا قياس صحيح .

وقياسه على مشي مستديم الغصب ، وقياس نزع التائب على نزع المستديم من أفسد القياس وأبينه بطلانا ، ونحن لا ننكر كون الفعل الواحد يكون له وجهان ، ولكن إذا تحقق النهي عنه والأمر به أمكن اعتبار وجهيه ، فإن الشارع أمر بستر العورة ، ونهى عن لبس الحرير ، فهذا الساتر لها بالحرير قد ارتكب الأمرين ، فصار فعله ذا وجهين .

وأما محل النزاع فلم يتحقق فيه النهي عن النزع ، والخروج عن الأرض المغصوبة من الشارع البتة ، لا بقوله ولا بمعقول قوله ، إلا باعتبار هذا الفرد بفرد آخر ، بينهما أشد تباين ، وأعظم فرق في الحس والعقل والفطرة والشرع .

وأما إلحاق هذا الفرد بالعفو فإن أريد به أنه معفو له عن المؤاخذة به فصحيح ، وإن أريد أنه لا حكم لله فيه ، بل هو بمنزلة فعل البهيمة والنائم ، والناسي والمجنون فباطل ، إذ هؤلاء غير مخاطبين ، وهذا مخاطب بالنزع والخروج ، فظهر الفرق ، والله الموفق للصواب .

فإن قيل : هذا يتأتى لكم فيما إذا لم يكن في المفارقة بنزع أو خروج مفسدة ، فما تصنعون فيما إذا تضمن مفسدة مثل مفسدة الإقامة ، كمن توسط جماعة جرحى لسلبهم ، فطرح نفسه على واحد ، إن أقام عليه قتله بثقله ، وإن انتقل عنه لم يجد بدا من انتقاله إلى مثله يقتله بثقله ، وقد عزم على التوبة ، فكيف تكون توبته ؟ .

قيل : توبة مثل هذا بالتزام أخف المفسدتين ، من الإقامة على الذنب المعين أو الانتقال عنه ، فإن تساوت مفسدة الإقامة على الذنب ومفسدة الانتقال عنه من كل وجه [ ص: 299 ] فهذا يؤمر من التوبة بالمقدور له منها ، وهو الندم ، والعزم الجازم على ترك المعاودة ، وأما الإقلاع فقد تعذر في حقه إلا بالتزام مفسدة أخرى مثل مفسدته .

فقيل : إنه لا حكم لله في هذه الحادثة ، لاستحالة ثبوت شيء من الأحكام الخمسة فيها ، إذ إقامته على الجريح تتضمن مفسدة قتله ، فلا يؤمر بها ، ولا هو مأذون له فيها ، وانتقاله عنه يتضمن مفسدة قتل الآخر ، فلا يؤمر بالانتقال ، ولا يؤذن له فيه ، فيتعذر الحكم في هذه الحادثة على هذا ، فتتعذر التوبة منها .

والصواب أن التوبة غير متعذرة ، فإنه لا واقعة إلا ولله فيها حكم ، علمه من علمه وجهله من جهله .

فيقال : حكم الله في هذه الواقعة كحكمه في الملجأ ، فإنه قد ألجئ قدرا إلى إتلاف أحد النفسين ولا بد ، والملجأ ليس له فعل يضاف إليه ، بل هو آلة ، فإذا صار هذا كالملجأ ، فحكمه أن لا يكون منه حركة ولا فعل ولا اختيار ، فلا يعدل من واحد إلى واحد ، بل يتخلى عن الحركة والاختيار ، ويستسلم استسلام من هو عليه من الجرحى ، إذ لا قدرة له على حركة مأذون له فيها البتة ، فحكمه الفناء عن الحركة والاختيار وشهود نفسه كالحجر الملقى على هذا الجريح ، ولا سيما إن كان قد ألقي عليه بغير اختياره ، فليس له أن يلقي نفسه على جاره لينجيه بقتله ، والقدر ألقاه على الأول ، فهو معذور به ، فإذا انتقل إلى الثاني انتقل بالاختيار والإرادة ، فهكذا إذا ألقى نفسه عليه باختياره ثم تاب وندم ، لا نأمره بإلقاء نفسه على جاره ، ليتخلص من الذنب بذنب مثله سواء .

وتوبة مثل هذا إنما تتصور بالندم والعزم فقط ، لا بالإقلاع ، والإقلاع في حقه مستحيل ، فهو كمن أولج في فرج حرام ، ثم شد وربط في حال إيلاجه بحيث لا يمكنه النزع البتة ، فتوبته بالندم والعزم والتجافي بقلبه عن السكون إلى الاستدامة ، وكذلك توبة الأول بذلك ، وبالتجافي عن الإرادة والاختيار ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية