مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل ومن أحكامها : أنها إذا كانت متضمنة لحق آدمي أن يخرج التائب إليه منه ، إما بأدائه وإما باستحلاله منه بعد إعلامه به ، وإن كان حقا ماليا أو جناية على بدنه أو بدن موروثه ، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض ، [ ص: 300 ] فليتحلله اليوم ، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات .

وإن كانت المظلمة بقدح فيه ، بغيبة أو قذف فهل يشترط في توبته منها إعلامه بذلك بعينه والتحلل منه ؟ أو إعلامه بأنه قد نال من عرضه ولا يشترط تعيينه ، أو لا يشترط لا هذا ولا هذا ، بل يكفي في توبته أن يتوب بينه وبين الله من غير إعلام من قذفه وإعتابه ؟

على ثلاثة أقوال ، وعن أحمد روايتان منصوصتان في حد القذف ، هل يشترط في توبة القاذف إعلام المقذوف ، والتحلل منه أم لا ؟ ويخرج عليهما توبة المغتاب والشاتم .

والمعروف في مذهب الشافعي ، وأبي حنيفة ، ومالك اشتراط الإعلام والتحلل ، هكذا ذكره أصحابهم في كتبهم .

والذين اشترطوا ذلك احتجوا بأن الذنب حق آدمي فلا يسقط إلا بإحلاله منه وإبرائه .

ثم من لم يصحح البراءة من الحق المجهول شرط إعلامه بعينه ، لا سيما إذا كان من عليه الحق عارفا بقدره ، فلا بد من إعلام مستحقه به ، لأنه قد لا تسمح نفسه بالإبراء منه إذا عرف قدره .

واحتجوا بالحديث المذكور ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : من كان لأخيه عنده مظلمة - من مال أو عرض - فليتحلله اليوم .

قالوا : ولأن في هذه الجناية حقين : حقا لله ، وحقا للآدمي ، فالتوبة منها بتحلل الآدمي لأجل حقه ، والندم فيما بينه وبين الله لأجل حقه .

قالوا : ولهذا كانت توبة القاتل لا تتم إلا بتمكين ولي الدم من نفسه ، إن شاء اقتص وإن شاء عفا ، وكذلك توبة قاطع الطريق .

والقول الآخر : أنه لا يشترط الإعلام بما نال من عرضه وقذفه واغتيابه ، بل يكفي توبته بينه وبين الله ، وأن يذكر المغتاب والمقذوف في مواضع غيبته وقذفه بضد ما ذكره به [ ص: 301 ] من الغيبة ، فيبدل غيبته بمدحه والثناء عليه ، وذكر محاسنه ، وقذفه بذكر عفته وإحصانه ، ويستغفر له بقدر ما اغتابه .

وهذا اختيار شيخنا أبي العباس ابن تيمية ، قدس الله روحه .

واحتج أصحاب هذه المقالة بأن إعلامه مفسدة محضة لا تتضمن مصلحة ، فإنه لا يزيده إلا أذى وحنقا وغما ، وقد كان مستريحا قبل سماعه ، فإذا سمعه ربما لم يصبر على حمله ، وأورثته ضررا في نفسه أو بدنه ، كما قال الشاعر :


فإن الذي يؤذيك منه سماعه وإن الذي قالوا وراءك لم يقل

وما كان هكذا فإن الشارع لا يبيحه ، فضلا عن أن يوجبه ويأمر به .

قالوا : وربما كان إعلامه به سببا للعداوة والحرب بينه وبين القائل ، فلا يصفو له أبدا ، ويورثه علمه به عداوة وبغضاء مولدة لشر أكبر من شر الغيبة والقذف ، وهذا ضد مقصود الشارع من تأليف القلوب ، والتراحم والتعاطف والتحابب .

قالوا : والفرق بين ذلك وبين الحقوق المالية وجنايات الأبدان من وجهين :

أحدهما : أنه قد ينتفع بها إذا رجعت إليه ، فلا يجوز إخفاؤها عنه ، فإنه محض حقه ، فيجب عليه أداؤه إليه ، بخلاف الغيبة والقذف ، فإنه ليس هناك شيء ينفعه يؤديه إليه إلا إضراره وتهييجه فقط ، فقياس أحدهما على الآخر من أفسد القياس .

والثاني : أنه إذا أعلمه بها لم تؤذه ، ولم تهج منه غضبا ولا عداوة ، بل ربما سره ذلك وفرح به ، بخلاف إعلامه بما مزق به عرضه طول عمره ليلا ونهارا ، من أنواع القذف والغيبة والهجو ، فاعتبار أحدهما بالآخر اعتبار فاسد ، وهذا هو الصحيح في القولين كما رأيت ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية