مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
[ ص: 316 ] فصل

وهذا يتبين بذكر التوبة النصوح وحقيقتها ، قال الله تعالى ياأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار فجعل وقاية شر السيئات - وهو تكفيرها - بزوال ما يكره العبد ، ودخول الجنات - وهو حصول ما يحب العبد - منوطا بحصول التوبة النصوح ، والنصوح على وزن فعول المعدول به عن فاعل قصدا للمبالغة ، كالشكور والصبور ، وأصل مادة ( ن ص ح ) لخلاص الشيء من الغش والشوائب الغريبة ، وهو ملاق في الاشتقاق الأكبر لنصح إذا خلص ، فالنصح في التوبة والعبادة والمشورة تخليصها من كل غش ونقص وفساد ، وإيقاعها على أكمل الوجوه ، والنصح ضد الغش .

وقد اختلفت عبارات السلف عنها ، ومرجعها إلى شيء واحد ، فقال عمر بن الخطاب ، وأبي بن كعب رضي الله عنهما : التوبة النصوح أن يتوب من الذنب ثم لا يعود إليه ، كما لا يعود اللبن إلى الضرع وقال الحسن البصري : هي أن يكون العبد نادما على ما مضى ، مجمعا على أن لا يعود فيه ، وقال الكلبي : أن يستغفر باللسان ، ويندم بالقلب ، ويمسك بالبدن ، وقال سعيد بن المسيب : توبة نصوحا ، تنصحون بها أنفسكم ، جعلها بمعنى ناصحة للتائب ، كضروب المعدول عن ضارب .

وأصحاب القول الأول يجعلونها بمعنى المفعول ، أي قد نصح فيها التائب ولم يشبها [ ص: 317 ] بغش ، فهي إما بمعنى منصوح فيها ، كركوبة وحلوبة ، بمعنى مركوبة ومحلوبة ، أو بمعنى الفاعل ، أي ناصحة كخالصة وصادقة .

وقال محمد بن كعب القرظي : يجمعها أربعة أشياء : الاستغفار باللسان ، والإقلاع بالأبدان ، وإضمار ترك العود بالجنان ، ومهاجرة سيء الإخوان .

قلت : النصح في التوبة يتضمن ثلاثة أشياء :

الأول : تعميم جميع الذنوب واستغراقها بها بحيث لا تدع ذنبا إلا تناولته .

والثاني : إجماع العزم والصدق بكليته عليها ، بحيث لا يبقى عنده تردد ، ولا تلوم ولا انتظار ، بل يجمع عليها كل إرادته وعزيمته مبادرا بها .

الثالث : تخليصها من الشوائب والعلل القادحة في إخلاصها ، ووقوعها لمحض الخوف من الله وخشيته ، والرغبة فيما لديه ، والرهبة مما عنده ، لا كمن يتوب لحفظ جاهه وحرمته ، ومنصبه ورياسته ، ولحفظ حاله ، أو لحفظ قوته وماله ، أو استدعاء حمد الناس ، أو الهرب من ذمهم ، أو لئلا يتسلط عليه السفهاء ، أو لقضاء نهمته من الدنيا ، أو لإفلاسه وعجزه ، ونحو ذلك من العلل التي تقدح في صحتها وخلوصها لله عز وجل .

فالأول يتعلق بما يتوب منه ، والثالث يتعلق بمن يتوب إليه ، والأوسط يتعلق بذات التائب ونفسه ، فنصح التوبة الصدق فيها ، والإخلاص ، وتعميم الذنوب بها ، ولا ريب أن هذه التوبة تستلزم الاستغفار وتتضمنه ، وتمحو جميع الذنوب ، وهي أكمل ما يكون من التوبة ، والله المستعان ، وعليه التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

التالي السابق


الخدمات العلمية