مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل المشهد الثالث

مشهد أصحاب الجبر : وهم الذين يشهدون أنهم مجبورون على أفعالهم ، وأنها واقعة بغير قدرتهم ، بل لا يشهدون أنها أفعالهم البتة .

يقولون : إن أحدهم غير فاعل في الحقيقة ولا قادر ، وأن الفاعل فيه غيره والمحرك له سواه ، وأنه آلة محضة ، وحركاته بمنزلة هبوب الرياح ، وحركات الأشجار .

وهؤلاء إذا أنكرت عليهم أفعالهم احتجوا بالقدر ، وحملوا ذنوبهم عليه ، وقد يغلون في ذلك حتى يروا أفعالهم كلها طاعات ، خيرها وشرها ، لموافقتها للمشيئة والقدر .

ويقولون : كما أن موافقة الأمر طاعة ، فموافقة المشيئة طاعة ، كما حكى الله تعالى عن المشركين إخوانهم أنهم جعلوا مشيئة الله تعالى لأفعالهم دليلا على أمره بها ورضاه ، وهؤلاء شر من القدرية النفاة ، وأشد منهم عداوة لله ، ومناقضة لكتبه ورسله ودينه ، حتى إن من هؤلاء من يعتذر عن إبليس ويتوجع له ويقيم عذره بجهده ، وينسب ربه تعالى [ ص: 408 ] إلى ظلمه بلسان الحال والمقال ، ويقول : ما ذنبه وقد صان وجهه عن السجود لغير خالقه ؟ وقد وافق حكمه ومشيئته فيه وإرادته منه ؟ ثم كيف يمكنه السجود وهو الذي منعه منه وحال بينه وبينه ؟ وهل كان في ترك السجود لغير الله إلا محسنا ؟ ولكن :


إذا كان المحب قليل حظ فما حسناته إلا ذنوب

وهؤلاء أعداء الله حقا ، وأولياء إبليس وأحباؤه وإخوانه ، وإذا ناح منهم نائح على إبليس ، رأيت من البكاء والحنين أمرا عجبا ، ورأيت من ظلمهم الأقدار واتهامهم الجبار ما يبدو على فلتات ألسنتهم ، وصفحات وجوههم ، وتسمع من أحدهم من التظلم والتوجع ما تسمعه من الخصم المغلوب العاجز عن خصمه ، فهؤلاء هم الذين قال فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية في تائيته :


ويدعى خصوم الله يوم معادهم     إلى النار طرا فرقة القدرية

التالي السابق


الخدمات العلمية