مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل المشهد الخامس

وهو أحد مشاهد أهل الاستقامة : مشهد الحكمة ، وهو مشهد حكمة الله في تقديره على عبده ما يبغضه سبحانه ويكرهه ، ويلوم ويعاقب عليه ، وأنه لو شاء لعصمه منه ، ولحال بينه وبينه ، وأنه سبحانه لا يعصى قسرا ، وأنه لا يكون في العالم شيء إلا بمشيئتهألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين .

وهؤلاء يشهدون أن الله سبحانه لم يخلق شيئا عبثا ولا سدى ، وأنه له الحكمة البالغة في كل ما قدره وقضاه من خير وشر ، وطاعة ومعصية ، وحكمة باهرة تعجز العقول عن الإحاطة بكنهها ، وتكل الألسن عن التعبير عنها .

فمصدر قضائه وقدره لما يبغضه ويسخطه اسمه الحكيم الذي بهرت حكمته الألباب ، وقد قال تعالى لملائكته لما قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك فأجابهم سبحانه بقوله : إني أعلم ما لا تعلمون فلله سبحانه في ظهور المعاصي والذنوب والجرائم وترتب آثارها من الآيات والحكم ، وأنواع التعرفات إلى خلقه ، وتنويع آياته ، ودلائل ربوبيته ووحدانيته ، وإلهيته ، وحكمته ، وعزته ، وتمام ملكه ، وكمال قدرته ، وإحاطة علمه ما يشهده أولو البصائر عيانا ببصائر قلوبهم ، فيقولون ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك إن هي إلا حكمتك الباهرة ، وآياتك الظاهرة .


ولله في كل تحريكة وتسكينة أبدا شاهد     وفي كل شيء له آية
تدل على أنه واحد

فكم من آية من الأرض بينة ، دالة على الله ، وعلى صدق رسله ، وعلى أن لقاءه [ ص: 410 ] حق ، كان سببها معاصي بني آدم وذنوبهم ، كآيته في إغراق قوم نوح ، وعلو الماء على رءوس الجبال حتى أغرق جميع أهل الأرض ونجى أولياءه ، وأهل معرفته وتوحيده ، فكم في ذلك من آية وعبرة ، ودلالة باقية على مر الدهور ؟ ! وكذلك إهلاك قوم عاد وثمود .

وكم له من آية في فرعون وقومه من حين بعث موسى عليه السلام إليهم بل قبل مبعثه إلى حيث إغراقهم ، لولا معاصيهم وكفرهم لم تظهر تلك الآيات والعجائب ، وفي التوراة أن الله تعالى قال لموسى : اذهب إلى فرعون فإني سأقسي قلبه ، وأمنعه عن الإيمان لأظهر آياتي وعجائبي بمصر ، وكذلك فعل سبحانه فأظهر من آياته وعجائبه بسبب ذنوب فرعون وقومه ما أظهر .

وكذلك إظهاره سبحانه ما أظهر من جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم بسبب ذنوب قومه ومعاصيهم ، وإلقائهم له في النار ، حتى صارت تلك آية ، وحتى نال إبراهيم بها ما نال من كمال الخلة .

وكذلك ما حصل للرسل من الكرامة والمنزلة والزلفى عند الله والوجاهة عنده ، بسبب صبرهم على أذى قومهم ، وعلى محاربتهم لهم ومعاداتهم .

وكذلك اتخاذ الله تعالى الشهداء والأولياء والأصفياء من بني آدم بسبب صبرهم على أذى بني آدم من أهل المعاصي والظلم ، ومجاهدتهم في الله ، وتحملهم لأجله من أعدائه ما هو بعينه وعلمه ، واستحقاقهم بذلك رفعة الدرجات .

إلى غير ذلك من المصالح والحكم التي وجدت بسبب ظهور المعاصي والجرائم ، وكان من سببها تقدير ما يبغضه الله ويسخطه ، وكان ذلك محض الحكمة لما يترتب عليه مما هو أحب إليه وآثر عنده من فوته بتقدير عدم المعصية .

فحصول هذا المحبوب العظيم أحب إليه من فوات ذلك المبغوض المسخوط ، فإن فواته وعدمه وإن كان محبوبا له لكن حصول هذا المحبوب الذي لم يكن يحصل بدون وجود ذلك المكروه المسخوط ، وكمال حكمته تقتضي حصول أحب الأمرين إليه بفوات أدنى المحبوبين ، وأن لا يعطل هذا الأحب بتعطيل ذلك المكروه ، وفرض الذهن وجود هذا بدون هذا ، كفرضه وجود المسببات بدون أسبابها ، والملزومات بدون لوازمها مما تمنعه حكمة الله ، وكمال قدرته وربوبيته .

ويكفي من هذا مثال واحد ، وهو أنه لولا المعصية من أبي البشر بأكله من [ ص: 411 ] الشجرة لما ترتب على ذلك ما ترتب من وجود هذه المحبوبات العظام للرب تعالى ، من امتحان خلقه وتكليفهم ، وإرسال رسله ، وإنزال كتبه ، وإظهار آياته وعجائبه وتنويعها وتصريفها ، وإكرام أوليائه ، وإهانة أعدائه ، وظهور عدله وفضله ، وعزته وانتقامه ، وعفوه ومغفرته وصفحه وحلمه ، وظهور من يعبده ويحبه ويقوم بمراضيه بين أعدائه في دار الابتلاء والامتحان .

فلو قدر أن آدم لم يأكل من الشجرة ، ولم يخرج من الجنة هو وأولاده لم يكن شيء من تلك ، ولا ظهر من القوة إلى الفعل ما كان كامنا في قلب إبليس يعلمه الله ولا تعلمه الملائكة ، ولم يتميز خبيث الخلق من طيبهم ، ولم تتم المملكة ، حيث لم يكن هناك إكرام وثواب ، وعقوبة وإهانة ، ودار سعادة وفضل ، ودار شقاوة وعدل .

وكم في تسليط أوليائه على أعدائه ، وتسليط أعدائه على أوليائه ، والجمع بينهما في دار واحدة ، وابتلاء بعضهم ببعض من حكمة بالغة ، ونعمة سابغة ! .

وكم فيها من حصول محبوب للرب ، وحمد له من أهل سماواته وأرضه ، وخضوع له وتذلل ، وتعبد وخشية وافتقار إليه ، وانكسار بين يديه أن لا يجعلهم من أعدائه ، إذ هم يشاهدونهم ويشاهدون خذلان الله لهم ، وإعراضه عنهم ، ومقته لهم ، وما أعد لهم من العذاب ، وكل ذلك بمشيئته وإرادته ، وتصرفه في مملكته ، فأولياؤه من خشية خذلانه خاضعون مشفقون ، على أشد وجل ، وأعظم مخافة ، وأتم انكسار .

فإذا رأت الملائكة إبليس وما جرى له ، وهاروت وماروت وضعت رءوسها بين يدي الرب خضوعا لعظمته ، واستكانة لعزته ، وخشية من إبعاده وطرده ، وتذللا لهيبته ، وافتقارا إلى عصمته ورحمته ، وعلمت بذلك منته عليهم ، وإحسانه إليهم ، وتخصيصه لهم بفضله وكرامته .

وكذلك أولياؤه المتقون ، إذا شاهدوا أحوال أعدائه ومقته لهم ، وغضبه عليهم ، وخذلانه لهم ، ازدادوا خضوعا وذلا ، وافتقارا وانكسارا ، وبه استعانة وإليه إنابة ، وعليه توكلا ، وفيه رغبة ، ومنه رهبة ، وعلموا أنهم لا ملجأ لهم منه إلا إليه ، وأنهم لا يعيذهم من بأسه إلا هو ، ولا ينجيهم من سخطهم إلا مرضاته ، فالفضل بيده أولا وآخرا .

[ ص: 412 ] وهذه قطرة من بحر حكمته المحيطة بخلقه ، والبصير يطالع ببصيرته ما وراءه ، فيطلعه على عجائب من حكمته ، لا تبلغها العبارة ، ولا تنالها الصفة .

وأما حظ العبد في نفسه ، وما يخصه من شهود هذه الحكمة فبحسب استعداده وقوة بصيرته ، وكمال علمه ومعرفته بالله وأسمائه وصفاته ، ومعرفته بحقوق العبودية والربوبية ، وكل مؤمن له من ذلك شرب معلوم ، ومقام لا يتعداه ولا يتخطاه ، والله الموفق والمعين .

التالي السابق


الخدمات العلمية