مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل فيورثه ذلك : المشهد الحادي عشر

وهو مشهد العجز والضعف ، وأنه أعجز شيء عن حفظ نفسه وأضعفه ، وأنه لا قوة له ولا قدرة ولا حول إلا بربه ، فيشهد قلبه كريشة ملقاة بأرض فلاة تقلبها الرياح يمينا وشمالا ، ويشهد نفسه كراكب سفينة في البحر تهيج بها الرياح وتتلاعب بها الأمواج ، ترفعها تارة ، وتخفضها تارة أخرى ، تجري عليه أحكام القدر ، وهو كالآلة طريحا بين يدي وليه ، ملقى ببابه ، واضعا خده على ثرى أعتابه ، لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، ليس له من نفسه إلا الجهل والظلم وآثارهما ومقتضياتهثما ، فالهلاك أدنى إليه من شراك نعله كشاة ملقاة بين الذئاب والسباع ، لا يردها عنها إلا الراعي ، فلو تخلى عنها طرفة عين لتقاسموها أعضاء .

وهكذا حال العبد ملقى بين الله وبين أعدائه ، من شياطين الإنس والجن ، فإن حماه منهم وكفهم عنه لم يجدوا إليه سبيلا ، وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه طرفة عين لم ينقسم عليهم ، بل هو نصيب من ظفر به منهم .

وفي هذا المشهد يعرف نفسه حقا ، ويعرف ربه ، وهذا أحد التأويلات للكلام المشهور " من عرف نفسه عرف ربه " وليس هذا حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما هو أثر [ ص: 427 ] إسرائيلي بغير هذا اللفظ أيضا " يا إنسان اعرف نفسك تعرف ربك " وفيه ثلاث تأويلات :

أحدها : أن من عرف نفسه بالضعف عرف ربه بالقوة ، ومن عرفها بالعجز عرف ربه بالقدرة ، ومن عرفها بالذل ، عرف ربه بالعز ، ومن عرفها بالجهل ، عرف ربه بالعلم ، فإن الله سبحانه استأثر بالكمال المطلق ، والحمد والثناء ، والمجد والغنى ، والعبد فقير ناقص محتاج ، وكلما ازدادت معرفة العبد بنقصه وعيبه وفقره وذله وضعفه ازدادت معرفته لربه بأوصاف كماله .

التأويل الثاني : أن من نظر إلى نفسه وما فيها من الصفات الممدوحة من القوة والإرادة والكلام والمشيئة والحياة ، عرف أن من أعطاه ذلك وخلقه فيه أولى به ، فمعطي الكمال أحق بالكمال ، فكيف يكون العبد حيا متكلما سميعا بصيرا مريدا عالما ، يفعل باختياره ، ومن خلقه وأوجده لا يكون أولى بذلك منه ؟ فهذا من أعظم المحال ، بل من جعل العبد متكلما أولى أن يكون هو متكلما ومن جعله حيا عليما سميعا بصيرا فاعلا قادرا ، أولى أن يكون كذلك .

فالتأويل الأول من باب الضد ، وهذا من باب الأولوية .

والتأويل الثالث : أن هذا من باب النفي ، أي كما أنك لا تعرف نفسك التي هي أقرب الأشياء إليك ، فلا تعرف حقيقتها ، ولا ماهيتها ولا كيفيتها ، فكيف تعرف ربك وكيفية صفاته ؟ .

والمقصود : أن هذا المشهد يعرف العبد أنه عاجز ضعيف ، فتزول عنه رعونات الدعاوي ، والإضافات إلى نفسه ، ويعلم أنه ليس له من الأمر شيء ، إن هو إلا محض القهر والعجز والضعف .

التالي السابق


الخدمات العلمية