مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل فحينئذ يطلع منه على المشهد الثاني عشر

وهو مشهد الذل ، والانكسار ، والخضوع ، والافتقار للرب جل جلاله ، فيشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة ضرورة تامة ، وافتقارا تاما إلى ربه ووليه ، ومن بيده صلاحه وفلاحه ، وهداه وسعادته ، وهذه الحال التي تحصل لقلبه لا تنال العبارة حقيقتها ، وإنما تدرك بالحصول ، فيحصل لقلبه كسرة خاصة لا يشبهها شيء ، بحيث يرى نفسه كالإناء المرضوض تحت الأرجل ، الذي لا شيء فيه ، ولا به ولا منه ، ولا فيه منفعة ، ولا يرغب في مثله ، وأنه لا يصلح للانتفاع إلا بجبر جديد من صانعه وقيمه ، فحينئذ يستكثر [ ص: 428 ] في هذا المشهد ما من ربه إليه من الخير ، ويرى أنه لا يستحق قليلا منه ولا كثيرا ، فأي خير له من الله استكثره على نفسه ، وعلم أن قدره دونه ، وأن رحمة ربه هي التي اقتضت ذكره به ، وسياقته إليه ، واستقل ما من نفسه من الطاعات لربه ، ورآها ولو ساوت طاعات الثقلين من أقل ما ينبغي لربه عليه ، واستكثر قليل معاصيه وذنوبه ، فإن الكسرة التي حصلت لقلبه أوجبت له هذا كله .

فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور ! وما أدنى النصر والرحمة والرزق منه ! وما أنفع هذا المشهد له وأجداه عليه ! وذرة من هذا ونفس منه أحب إلى الله من طاعات أمثال الجبال من المدلين المعجبين بأعمالهم وعلومهم وأحوالهم ، وأحب القلوب إلى الله سبحانه قلب قد تمكنت منه هذه الكسرة ، وملكته هذه الذلة ، فهو ناكس الرأس بين يدي ربه ، لا يرفع رأسه إليه حياء وخجلا من الله .

قيل لبعض العارفين : أيسجد القلب ؟ قال : نعم يسجد سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء ، فهذا سجود القلب .

فقلب لا تباشره هذه الكسرة هو غير ساجد السجود المراد منه ، وإذا سجد القلب لله هذه السجدة العظمى سجدت معه جميع الجوارح ، وعنا الوجه حينئذ للحي القيوم ، وخشع الصوت والجوارح كلها ، وذل العبد وخضع واستكان ، ووضع خده على عتبة العبودية ، ناظرا بقلبه إلى ربه ووليه نظر الذليل إلى العزيز الرحيم ، فلا يرى إلا متملقا لربه ، خاضعا له ، ذليلا مستعطفا له ، يسأله عطفه ورحمته ، فهو يترضى ربه كما يترضى المحب الكامل المحبة محبوبه المالك له ، الذي لا غنى له عنه ، ولا بد له منه ، فليس له هم غير استرضائه واستعطافه ، لأنه لا حياة له ولا فلاح إلا في قربه ورضاه عنه ، ومحبته له ، يقول : كيف أغضب من حياتي في رضاه ؟ وكيف أعدل عمن سعادتي وفلاحي وفوزي في قربه وحبه وذكره ؟

وصاحب هذا المشهد يشهد نفسه كرجل كان في كنف أبيه يغذوه بأطيب الطعام والشراب واللباس ، ويربيه أحسن التربية ، ويرقيه على درجات الكمال أتم ترقية ، وهو القيم بمصالحه كلها ، فبعثه أبوه في حاجة له ، فخرج عليه في طريقه عدو ، فأسره وكتفه وشده وثاقا ، ثم ذهب به إلى بلاد الأعداء فسامه سوء العذاب ، وعامله بضد ما كان أبوه يعامله به ، فهو يتذكر تربية والده وإحسانه إليه الفينة بعد الفينة ، فتهيج من قلبه لواعج الحسرات كلما رأى حاله ، ويتذكر ما كان عليه وكل ما كان فيه ، فبينما هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب ، ويريد نحره في آخر الأمر ، إذ حانت منه التفاتة إلى نحو ديار أبيه ، فرأى أباه منه قريبا ، فسعى إليه ، وألقى نفسه عليه ، وانطرح بين يديه ، يستغيث [ ص: 429 ] يا أبتاه ، يا أبتاه ، يا أبتاه ! انظر إلى ولدك وما هو فيه ، ودموعه تستبق على خديه ، قد اعتنقه والتزمه ، وعدوه في طلبه ، حتى وقف على رأسه ، وهو ملتزم لوالده ممسك به ، فهل تقول : إن والده يسلمه مع هذه الحال إلى عدوه ، ويخلي بينه وبينه ؟ فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالد بولده ، ومن الوالدة بولدها إذا فر عبد إليه ، وهرب من عدوه إليه ، وألقى بنفسه طريحا ببابه ، يمرغ خده في ثرى أعتابه باكيا بين يديه ، يقول : يا رب ، يا رب ، ارحم من لا راحم له سواك ، ولا ناصر له سواك ، ولا مؤوي له سواك ، ولا مغيث له سواك . مسكينك وفقيرك ، وسائلك ومؤملك ومرجيك ، لا ملجأ له ولا منجى له منك إلا إليك ، أنت معاذه وبك ملاذه .


يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره     لا يجبر الناس عظما أنت كاسره
ولا يهيضون عظما أنت جابره

التالي السابق


الخدمات العلمية