مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل .

قال : وإنما يستقيم الرجوع إليه عهدا بثلاثة أشياء : بالخلاص من لذة الذنب ، وبترك الاستهانة بأهل الغفلة ، تخوفا عليهم ، مع الرجاء لنفسك ، بالاستقصاء في رؤية علة الخدمة .

إذا صفت له الإنابة إلى ربه تخلص من الفكرة في لذة الذنب ، وعاد مكانها ألما وتوجعا لذكره ، والفكرة فيه ، فما دامت لذة الفكرة فيه موجودة في قلبه ، فإنابته غير صافية .

[ ص: 436 ] فإن قيل : أي الحالين أعلى ؟ حال من يجد لذة الذنب في قلبه ، فهو يجاهدها لله ، ويتركها من خوفه ومحبته وإجلاله أو حال من ماتت لذة الذنب في قلبه وصار مكانها ألما وتوجعا وطمأنينة إلى ربه ، وسكونا إليه ، والتذاذا بحبه ، وتنعما بذكره ؟ .

قيل : حال هذا أكمل وأرفع ، وغاية صاحب المجاهدة أن يجاهد نفسه حتى يصل إلى مقام هذا ومنزلته ، ولكنه يتلوه في المنزلة والقرب ومنوط به .

فإن قيل : فأين أجر مجاهدة صاحب اللذة ، وتركه محابه لله ، وإيثاره رضى الله على هواه ؟ وبهذا كان النوع الإنساني أفضل من النوع الملكي عند أهل السنة وكانوا خير البرية . والمطمئن قد استراح من ألم هذه المجاهدة وعوفي منها ، فبينهما من التفاوت ما بين درجة المعافى والمبتلى .

قيل : النفس لها ثلاثة أحوال : الأمر بالذنب ، ثم اللوم عليه والندم منه ، ثم الطمأنينة إلى ربها والإقبال بكليتها عليه ، وهذه الحال أعلى أحوالها ، وأرفعها وهي التي يشمر إليها المجاهد ، وما يحصل له من ثواب مجاهدته وصبره فهو لتشميره إلى درجة الطمأنينة إلى الله ، فهو بمنزلة راكب القفار ، والمهامه والأهوال ليصل إلى البيت فيطمئن قلبه برؤيته والطواف به ، والآخر بمنزلة من هو مشغول به طائفا وقائما ، وراكعا وساجدا ، ليس له التفات إلى غيره ، فهذا مشغول بالغاية ، وذاك بالوسيلة ، وكل له أجر ، ولكن بين أجر الغايات وأجر الوسائل بون .

وما يحصل للمطمئن من الأحوال والعبودية والإيمان فوق ما يحصل لهذا المجاهد نفسه في ذات الله ، وإن كان أكثر عملا ، فقدر عمل المطمئن المنيب بجملته وكيفيته أعظم ، وإن كان هذا المجاهد أكثر عملا ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، فما سبق الصديق الصحابة بكثرة عمل ، وقد كان فيهم من هو أكثر صياما وحجا وقراءة وصلاة منه ، ولكن بأمر آخر قام بقلبه ، حتى إن أفضل الصحابة كان يسابقه ولا يراه إلا أمامه .

ولكن عبودية مجاهد نفسه على لذة الذنب والشهوة قد تكون أشق ، ولا يلزم من [ ص: 437 ] مشقتها تفضيلها في الدرجة ، فأفضل الأعمال الإيمان بالله ، والجهاد أشق منه وهو تاليه في الدرجة ، ودرجة الصديقين أعلى من درجة المجاهدين والشهداء ، وفي مسند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الشهداء فقال إن أكثر شهداء أمتي لأصحاب الفرش ، ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته .

التالي السابق


الخدمات العلمية