مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل .

وأما صاحب المنازل فقال : الاعتصام بالله الترقي عن كل موهوم .

الموهوم عنده ما سوى الله تعالى ، والترقي عنه الصعود من شهود نفعه وضره وعطائه ومنعه وتأثيره إلى الله تعالى ، وهذه إشارة إلى الفناء . ومراده : الصعود عن شهود ما سوى الله إلى الله . والكمال في ذلك : الصعود عن إرادة ما سوى الله إلى إرادته .

والاتحادي يفسره بالصعود عن وجود ما سواه إلى وجوده ، بحيث لا يرى لغيره وجودا البتة ، ويرى وجود كل موجود هو وجوده ، فلا وجود لغيره إلا في الوهم الكاذب عنده .

قال : وهو على ثلاث درجات : اعتصام العامة بالخبر ، استسلاما وإذعانا ، بتصديق الوعد والوعيد ، وتعظيم الأمر والنهي ، وتأسيس المعاملة على اليقين والإنصاف .

يعني أن العامة اعتصموا بالخبر الوارد عن الله ، استسلاما من غير منازعة ، بل إيمانا واستسلاما ، وانقادوا إلى تعظيم الأمر والنهي والإذعان لهما ، والتصديق بالوعد والوعيد ، وأسسوا معاملتهم على اليقين ، لا على الشك والتردد ، وسلوك طريقة الاحتياط ، كما قال القائل :


زعم المنجم والطبيب كلاهما لا تبعث الأجساد قلت إليكما     إن صح قولكما فلست بخاسر
أو صح قولي فالخسار عليكما

[ ص: 461 ] هذا طريق أهل الريب والشك يقومون بالأمر والنهي احتياطا ، وهذه الطريق لا تنجي من عذاب الله ولا تحصل لصاحبها السعادة ، ولا توصله إلى المأمن .

وأما الإنصاف الذي أسسوا معاملتهم عليه فهو الإنصاف في معاملتهم لله ولخلقه .

فأما الإنصاف في معاملة الله فأن يعطي العبودية حقها ، وأن لا ينازع ربه صفات إلهيته التي لا تليق بالعبد ولا تنبغي له من العظمة ، والكبرياء ، والجبروت .

ومن إنصافه لربه أن لا يشكر سواه على نعمه وينساه ، ولا يستعين بها على معاصيه ، ولا يحمد على رزقه غيره ، ولا يعبد سواه ، كما في الأثر الإلهي : إني والجن والإنس في نبإ عظيم أخلق ويعبد غيري ، وأرزق ويشكر سواي ، وفي أثر آخر : ابن آدم ما أنصفتني ، خيري إليك نازل ، وشرك إلي صاعد ، أتحبب إليك بالنعم ، وأنا عنك غني ، وتتبغض إلي بالمعاصي وأنت فقير إلي ، ولا يزال الملك الكريم يعرج إلي منك بعمل قبيح ، وفي أثر آخر : يا ابن آدم ، ما من يوم جديد ، إلا يأتيك من عندي رزق جديد ، وتأتي عنك الملائكة بعمل قبيح ، تأكل رزقي وتعصيني ، وتدعوني فأستجيب لك ، وتسألني فأعطيك ، وأنا أدعوك إلى جنتي فتأبى ذلك ، وما هذا من الإنصاف .

وأما الإنصاف في حق العبيد فأن يعاملهم بمثل ما يحب أن يعاملوه به .

ولعمر الله هذا الذي ذكر أنه اعتصام العامة . هو اعتصام خاصة الخاصة في الحقيقة ، ولكن الشيخ ممن رفع له علم الفناء فشمر إليه ، فلا تأخذه فيه لومة لائم ، ولا يرى مقاما أجل منه .

التالي السابق


الخدمات العلمية