مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل .

قال : وسماع الخاصة ثلاثة أشياء : شهود المقصود في كل رمز ، والوقوف على الغاية في كل حين ، والخلاص من التلذذ بالتفرق .

والمقصود في كل رمز : هو الرب تبارك وتعالى ، فإن المسموع كله يعرف به وبصفاته وأسمائه ، وأفعاله وأحكامه ، ووعده ووعيده ، وأمره ونهيه ، وعدله وفضله ، وهذا الشهود ينال بالسماع بالله ولله وفي الله ومن الله .

أما السماع به : فأن لا يسمع وفيه بقية من نفسه ، فإن كانت فيه بقية قطعها كمال تعلقه بالمسموع ، فيكون سماعه بقيوميته مجردا من التفاته إلى نفسه .

وأما السماع له : فأن يجرد النفس في السماع من كل إرادة تزاحم مراد الله منه . وتجمع قوى سمعه على تحصيل مراد الله من المسموع .

وأما السماع فيه : فشأن آخر ، وهو تجريد ما لا يليق نسبته إلى الحق من وصف ، أو سمة أو نعت ، أو فعل ، مما هو لائق بكماله ، فيثبت له ما يليق بكماله من المسموع ، وينزهه عما لا يليق به .

وهذا الموضع لم يتخلص فيه إلا الراسخون في العلم والمعرفة بالله ، وأضل الله عنه أهل التحريف والتعطيل ، والتشبيه والتمثيل ، و فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .

[ ص: 499 ] وأما السماع منه فإنما يتصور بواسطة ، فهو سماع مقيد ، وأما المطلق فلا مطمع فيه في عالم الفناء ، إلا لمن اختصه الله برسالاته وبكلامه ، ولكن السماع لكلامه كالسماع منه ، فإنه كلامه الذي تكلم به حقا ، فمن سمعه فليقدر نفسه كأنه يسمعه من الله .

هذا هو السماع من الله ، لا سماع أرباب الخيال ، ودعوى المحال القائل أحدهم : ناداني في سري ، وخاطبني ، وقال لي ، يا ليت شعري من المنادي لك ؟ ومن المخاطب ، يا مخدوع يا مغرور ؟ فما يدريك أنداء شيطاني ، أم رحماني ؟ وما البرهان على أن المخاطب لك هو الرحمن ؟

نعم نحن لا ننكر النداء والخطاب والحديث ، وإنما الشأن في المنادي المخاطب المحدث ، فهاهنا تسكب العبرات .

وبالجملة فمن قرئ عليه القرآن فليقدر نفسه كأنما يسمعه من الله يخاطبه به ، فإذا حصل له مع ذلك السماع به وله وفيه ازدحمت معاني المسموع ولطائفه وعجائبه على قلبه ، وازدلفت إليه بأيهما يبدأ ، فما شئت من علم وحكمة ، وتعرف وبصيرة ، وهداية وغيرة .

وأما الوقوف على الغاية في كل حين : فهو التطلب والسفر إلى الغاية المقصودة بالمسموع الذي جعل وسيلة إليها . وهو الحق سبحانه ، فإنه غاية كل مطلب وأن إلى ربك المنتهى وليس وراء الله مرمى ، ولا دونه مستقر ، ولا تقر العين بغيره البتة ، وكل مطلوب سواه فظل زائل ، وخيال مفارق مائل وإن تمتع به صاحبه فمتاع الغرور .

وأما الخلاف من التلذذ بالتفرق : فالتفرق في معاني المسموع ، وتنقل القلب في منازلها يوجب له لذة ، كما هو المألوف في الانتقال ، فليتخلص من لذة تفرقه التي هي حظه ، إلى الجمعية على المسموع به وله ومنه .

ولم يقل الشيخ " من التفرق " فإن المسموع إنما يدرك معناه ويفهم بالتفرق لتنوعه ، ولكن ليتخلص من لذته ، لا منه ، لئلا يكون مع حظه ، وهذا من لطف أحوال السامعين المخلصين .

التالي السابق


الخدمات العلمية