مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل منزلة الخوف

ومن منازل ( ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ) منزلة الخوف .

وهي من أجل منازل الطريق وأنفعها للقلب ، وهي فرض على كل أحد ، قال الله تعالى فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين وقال تعالى وإياي فارهبون وقال فلا تخشوا الناس واخشون ومدح أهله في كتابه وأثنى عليهم ، فقال إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون إلى قوله أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون وفي المسند والترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت يا رسول الله ، قول الله والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أهو الذي يزني ، ويشرب الخمر ، ويسرق ؟ قال : لا يا ابنة الصديق ، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ، ويخاف أن لا يقبل منه قال الحسن : عملوا والله بالطاعات ، واجتهدوا فيها ، وخافوا أن ترد عليهم ، إن المؤمن جمع إحسانا وخشية ، والمنافق جمع إساءة وأمنا .

و ( ( الوجل ) ) و ( ( الخوف ) ) و ( ( الخشية ) ) و ( ( الرهبة ) ) ألفاظ متقاربة غير مترادفة ، قال أبو القاسم الجنيد : الخوف توقع العقوبة على مجاري الأنفاس .

[ ص: 508 ] وقيل : الخوف اضطراب القلب وحركته من تذكر المخوف .

وقيل : الخوف قوة العلم بمجاري الأحكام ، وهذا سبب الخوف ، لا أنه نفسه

وقيل : الخوف هرب القلب من حلول المكروه عند استشعاره .

و ( ( الخشية ) ) أخص من الخوف ، فإن الخشية للعلماء بالله ، قال الله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء فهي خوف مقرون بمعرفة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم إني أتقاكم لله ، وأشدكم له خشية .

فالخوف حركة ، والخشية انجماع ، وانقباض وسكون ، فإن الذي يرى العدو والسيل ونحو ذلك له حالتان :

إحداهما : حركة للهرب منه ، وهي حالة الخوف .

والثانية : سكونه وقراره في مكان لا يصل إليه فيه ، وهي الخشية ، ومنه : انخشى الشيء ، والمضاعف والمعتل أخوان ، كتقضي البازي وتقضض .

وأما الرهبة فهي الإمعان في الهرب من المكروه ، وهي ضد الرغبة التي هي سفر القلب في طلب المرغوب فيه .

وبين الرهب والهرب تناسب في اللفظ والمعنى ، يجمعهما الاشتقاق الأوسط الذي هو عقد تقاليب الكلمة على معنى جامع .

وأما الوجل فرجفان القلب ، وانصداعه لذكر من يخاف سلطانه وعقوبته ، أو لرؤيته .

وأما الهيبة فخوف مقارن للتعظيم والإجلال ، وأكثر ما يكون مع المحبة والمعرفة . والإجلال : تعظيم مقرون بالحب .

فالخوف لعامة المؤمنين ، والخشية للعلماء العارفين ، والهيبة للمحبين ، والإجلال للمقربين ، وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إني لأعلمكم بالله ، وأشدكم له خشية وفي رواية " خوفا " وقال لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ، ولبكيتم كثيرا ، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات [ ص: 509 ] تجأرون إلى الله تعالى .

فصاحب الخوف يلتجئ إلى الهرب ، والإمساك ، وصاحب الخشية يلتجئ إلى الاعتصام بالعلم ، ومثلهما مثل من لا علم له بالطب ، ومثل الطبيب الحاذق ، فالأول يلتجئ إلى الحمية والهرب ، والطبيب يلتجئ إلى معرفته بالأدوية والأدواء .

قال أبو حفص : الخوف سوط الله ، يقوم به الشاردين عن بابه ، وقال : الخوف سراج في القلب ، به يبصر ما فيه من الخير والشر ، وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله عز وجل ، فإنك إذ خفته هربت إليه .

فالخائف هارب من ربه إلى ربه .

قال أبو سليمان : ما فارق الخوف قلبا إلا خرب ، وقال إبراهيم بن سفيان : إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها ، وطرد الدنيا عنها ، وقال ذو النون : الناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف ، فإذا زال عنهم الخوف ضلوا الطريق ، وقال [ ص: 510 ] حاتم الأصم : لا تغتر بمكان صالح ، فلا مكان أصلح من الجنة ، ولقي فيها آدم ما لقي ، ولا تغتر بكثرة العبادة ، فإن إبليس بعد طول العبادة لقي ما لقي ، ولا تغتر بكثرة العلم ، فإن بلعام بن باعورا لقي ما لقي وكان يعرف الاسم الأعظم ، ولا تغتر بلقاء الصالحين ورؤيتهم ، فلا شخص أصلح من النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم ينتفع بلقائه أعداؤه والمنافقون .

والخوف ليس مقصودا لذاته ، بل هو مقصود لغيره قصد الوسائل ، ولهذا يزول بزوال المخوف ، فإن أهل الجنة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

والخوف يتعلق بالأفعال ، والمحبة تتعلق بالذات والصفات ، ولهذا تتضاعف محبة المؤمنين لربهم إذا دخلوا دار النعيم ، ولا يلحقهم فيها خوف ، ولهذا كانت منزلة المحبة ومقامها أعلى وأرفع من منزلة الخوف ومقامه .

والخوف المحمود الصادق : ما حال بين صاحبه وبين محارم الله عز وجل ، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط .

قال أبو عثمان : صدق الخوف هو الورع عن الآثام ظاهرا وباطنا .

[ ص: 511 ] وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول : الخوف المحمود ما حجزك عن محارم الله .

وقال صاحب المنازل : الخوف هو الانخلاع من طمأنينة الأمن بمطالعة الخبر .

يعني الخروج عن سكون الأمن باستحضار ما أخبر الله به من الوعد والوعيد .

قال : وهو على ثلاث درجات ، الدرجة الأولى : الخوف من العقوبة ، وهو الخوف الذي يصح به الإيمان ، وهو خوف العامة ، وهو يتولد من تصديق الوعيد ، وذكر الجناية ، ومراقبة العاقبة .

والخوف مسبوق بالشعور والعلم ، فمحال خوف الإنسان مما لا شعور له به .

وله متعلقان ، أحدهما : نفس المكروه المحذور وقوعه ، والثاني : السبب والطريق المفضي إليه ، فعلى قدر شعوره بإفضاء السبب إلى المخوف ، وبقدر المخوف يكون خوفه ، وما نقص من شعوره بأحد هذين نقص من خوفه بحسبه .

فمن لم يعتقد أن سبب كذا يفضي إلى محذور كذا لم يخف من ذلك السبب ، ومن اعتقد أنه يفضي إلى مكروه ما ، ولم يعرف قدره لم يخف منه ذلك الخوف ، فإذا عرف قدر المخوف ، وتيقن إفضاء السبب إليه حصل له الخوف .

هذا معنى تولده من تصديق الوعيد ، وذكر الجناية ، ومراقبة العاقبة .

وفي مراقبة العاقبة : زيادة استحضار المخوف ، وجعله نصب عينه ، بحيث لا ينساه ، فإنه وإن كان عالما به لكن نسيانه وعدم مراقبته يحول بين القلب وبين الخوف ، فلذلك كان الخوف علامة صحة الإيمان ، وترحله من القلب علامة ترحل الإيمان منه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية