[ ص: 5 ] فصل منزلة الإخبات  
ومن منازل : (  
إياك نعبد وإياك نستعين     )  
منزلة الإخبات     .  
قال الله تعالى : (  
وبشر المخبتين     ) ثم كشف عن معناهم فقال : (  
الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون     ) وقال : (  
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون     ) .  
و " الخبت " في أصل اللغة : المكان المنخفض من الأرض . وبه فسر  
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس  رضي الله عنهما  
وقتادة  لفظ المخبتين وقالا : هم المتواضعون .  وقال  
مجاهد     : المخبت : المطمئن إلى الله عز وجل     . قال : والخبت : المكان المطمئن من الأرض . وقال  
الأخفش     :      
[ ص: 6 ] الخاشعون . وقال  
 nindex.php?page=showalam&ids=12354إبراهيم النخعي     : المصلون المخلصون . وقال  
الكلبي     : هم الرقيقة قلوبهم . وقال  
عمرو بن أوس     : هم الذين لا يظلمون ، وإذا ظلموا لم ينتصروا .  
وهذه الأقوال تدور على معنيين : التواضع ، والسكون إلى الله عز وجل ، ولذلك عدي ب " إلى " تضمينا لمعنى الطمأنينة ، والإنابة والسكون إلى الله .  
قال صاحب " المنازل " :  
" هو من أول مقامات الطمأنينة " .  
كالسكينة ، واليقين ، والثقة بالله ونحوها . فالإخبات مقدمتها ومبدؤها .  
قال : وهو ورود المأمن من الرجوع والتردد .  
لما كان  
الإخبات أول مقام يتخلص فيه السالك من التردد     - الذي هو نوع غفلة وإعراض - والسالك مسافر إلى ربه ، سائر إليه على مدى أنفاسه . لا ينتهي مسيره إليه ما دام نفسه يصحبه - شبه حصول الإخبات له بالماء العذب الذي يرده المسافر على ظمأ وحاجة في أول مناهله . فيرويه مورده ، ويزيل عنه خواطر تردده في إتمام سفره ، أو رجوعه إلى وطنه لمشقة السفر . فإذا ورد ذلك الماء زال عنه التردد وخاطر الرجوع . كذلك      
[ ص: 7 ] السالك إذا ورد مورد الإخبات تخلص من التردد والرجوع ، ونزل أول منازل الطمأنينة بسفره ، وجد في السير .  
قال :  
وهو على ثلاث درجات     . الدرجة الأولى : أن تستغرق العصمة الشهوة وتستدرك الإرادة الغفلة . ويستهوي الطلب السلوة .  
المريد السالك : تعرض له غفلة عن مراده ، تضعف إرادته . وشهوة تعارض إرادته فتصده عن مراده . ورجوع عن مراده ، وسلوة عنه .  
فهذه الدرجة من الإخبات تحميه عن هذه الثلاثة . فتستغرق عصمته شهوته .  
والعصمة هي الحماية والحفظ . والشهوة الميل إلى مطالب النفس . والاستغراق للشيء الاحتواء عليه والإحاطة به .  
يقول : تغلب عصمته شهوته وتقهرها ، وتستوفي جميع أجزائها . فإذا استوفت العصمة جميع أجزاء الشهوة فذلك دليل على إخباته ودخوله في مقام الطمأنينة ، ونزوله أول منازلها ، وخلاصه في هذا المنزل من تردد الخواطر بين الإقبال والإدبار ، والرجوع والعزم ، إلى الاستقامة والعزم الجازم ، والجد في السير . وذلك  
علامة السكينة     .  
وتستدرك إرادته غفلته . والإرادة عند القوم هي اسم لأول منازل القاصدين إلى الله . والمريد هو الذي خرج من وطن طبعه ونفسه . وأخذ في السفر إلى الله ، والدار الآخرة ، فإذا نزل في منزل الإخبات أحاطت إرادته بغفلته . فاستدركها ، واستدرك بها فارطها .  
وأما استهواء طلبه لسلوته فهو قهر محبته لسلوته ، وغلبتها له . بحيث تهوي السلوة وتسقط ، كالذي يهوي في بئر . وهذا علامة المحبة الصادقة أن تقهر فيه وارد السلوة ، وتدفنها في هوة لا تحيا بعدها أبدا .  
فالحاصل : أن عصمته وحمايته تقهر شهوته . وإرادته تقهر غفلته . ومحبته تقهر سلوته .  
قال : الدرجة الثانية : أن لا ينقض إرادته سبب . ولا يوحش قلبه عارض . ولا يقطع عليه الطريق فتنة .   
[ ص: 8 ] هذه ثلاثة أمور أخرى . تعرض لصادق الإرادة : سبب يعرض له ينقض عزمه وإرادته . ووحشة تعرض له في طريق طلبه ، ولا سيما عند تفرده . وفتنة تخرج عليه ، تقصد قطع الطريق عليه .  
فإذا تمكن من منزل الإخبات اندفعت عنه هذه الآفات ؛ لأن إرادته إذا قويت ، وجد به المسير لم ينقضها سبب من أسباب التخلف .  
والنقض هو الرجوع عن إرادته ، والعدول عن جهة سفره .  
ولا يوحش أنسه بالله في طريقه عارض من العوارض الشواغل للقلب ، والجواذب له عمن هو متوجه إليه .  
والعارض هو المخالف . كالشيء الذي يعترضك في طريقك . فيجيء في عرضها . ومن أقوى هذه العوارض عارض وحشة التفرد . فلا يلتفت إليه ، كما قال بعض الصادقين : انفرادك في طريق طلبك دليل على صدق الطلب . وقال آخر : لا تستوحش في طريقك من قلة السالكين . ولا تغتر بكثرة الهالكين .  
وأما الفتنة التي تقطع عليه الطريق فهي الواردات التي ترد على القلوب ، تمنعها من مطالعة الحق وقصده . فإذا تمكن من منزل الإخبات وصحة الإرادة والطلب لم يطمع فيه عارض الفتنة .  
وهذه العزائم لا تصح إلا لمن أشرق على قلبه أنوار آثار الأسماء والصفات . وتجلت عليه معانيها . وكافح قلبه حقيقة اليقين بها .  
وقد قيل : من أخذ العلم من عين العلم ثبت . ومن أخذه من جريانه أخذته أمواج الشبه . ومالت به العبارات ، واختلفت عليه الأقوال .  
قال :  
الدرجة الثالثة : أن يستوي عنده المدح والذم  ، وتدوم لائمته لنفسه . ويعمى عن نقصان الخلق عن درجته .  
اعلم أنه متى استقرت قدم العبد في منزلة الإخبات وتمكن فيها ارتفعت همته ، وعلت نفسه عن خطفات المدح والذم . فلا يفرح بمدح الناس . ولا يحزن لذمهم . هذا وصف من خرج عن حظ نفسه ، وتأهل للفناء في عبودية ربه . وصار قلبه مطرحا لأشعة أنوار الأسماء والصفات . وباشر حلاوة الإيمان واليقين قلبه .   
[ ص: 9 ] والوقوف عند مدح الناس وذمهم علامة انقطاع القلب ، وخلوه من الله ، وأنه لم تباشره روح محبته ومعرفته ، ولم يذق حلاوة التعلق به والطمأنينة إليه .  
وأما قوله : وأن تدوم لائمته لنفسه فهو أن صاحب هذا المنزل لا يرضى عن نفسه ، وهو مبغض لها متمن لمفارقتها .  
والمراد بالنفس  ، عند القوم : ما كان معلوما من أوصاف العبد ، مذموما من أخلاقه وأفعاله ، سواء كان ذلك كسبيا ، أو خلقيا . فهو شديد اللائمة لها . وهذا أحد التأويلين في قوله تعالى : (  
ولا أقسم بالنفس اللوامة     ) قال  
 nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير  وعكرمة     : تلوم على الخير والشر . ولا تصبر على السراء . ولا على الضراء .  
وقال  
قتادة     : اللوامة هي الفاجرة     .  
وقال  
مجاهد :  تندم على ما فات ، وتقول : لو فعلت ؟ ولو لم أفعل ؟ .  
وقال  
الفراء     : ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها إن كانت عملت خيرا قالت : هلا زدت ؟ وإن عملت شرا قالت : ليتني لم أفعل .  
وقال  
الحسن     : هي النفس المؤمنة . إن المؤمن - والله - ما تراه إلا يلوم نفسه : ما أردت بكلمة كذا ؟ ما أردت بأكلة كذا ؟ ما أردت بكذا ؟ ما أردت بكذا ؟ وإن الفاجر يمضي قدما قدما ، ولا يحاسب نفسه ولا يعاتبها .  
وقال  
مقاتل     : هي النفس الكافرة ، تلوم نفسها في الآخرة على ما فرطت في أمر الله في الدنيا .  
والقصد : أن من بذل نفسه لله بصدق كره بقاءه معها ؛ لأنه يريد أن يتقبلها من بذلت له . ولأنه قد قربها له قربانا . ومن قرب قربانا فتقبل منه ليس كمن رد عليه قربانه . فبقاء نفسه معه دليل على أنه لم يتقبل قربانه .  
وأيضا فإنه من قواعد القوم المجمع عليها بينهم ، التي اتفقت كلمة أولهم وآخرهم ، ومحقهم ومبطلهم عليها أن  
النفس حجاب بين العبد وبين الله  ، وأنه لا يصل إلى الله حتى يقطع هذا الحجاب . كما قال  
أبو يزيد     : رأيت رب العزة في المنام . فقلت : يا رب ، كيف الطريق إليك ؟ فقال : خل نفسك وتعال .   
[ ص: 10 ] فالنفس جبل عظيم شاق في طريق السير إلى الله عز وجل . وكل سائر لا طريق له إلا على ذلك الجبل . فلابد أن ينتهي إليه ، ولكن منهم من هو شاق عليه ومنهم من هو سهل عليه . وإنه ليسير على من يسره الله عليه .  
وفي ذلك الجبل أودية وشعوب ، وعقبات ووهود ، وشوك وعوسج ، وعليق وشبرق ، ولصوص يقتطعون الطريق على السائرين . ولا سيما أهل الليل المدلجين . فإذا لم يكن معهم عدد الإيمان ، ومصابيح اليقين تتقد بزيت الإخبات ، وإلا تعلقت بهم تلك الموانع . وتشبثت بهم تلك القواطع وحالت بينهم وبين السير .  
فإن أكثر السائرين فيه رجعوا على أعقابهم لما عجزوا عن قطعه واقتحام عقباته . والشيطان على قلة ذلك الجبل يحذر الناس من صعوده وارتفاعه ، ويخوفهم منه . فيتفق مشقة الصعود وقعود ذلك المخوف على قلته ، وضعف عزيمة السائر ونيته . فيتولد من ذلك الانقطاع والرجوع . والمعصوم من عصمه الله .  
وكلما رقى السائر في ذلك الجبل اشتد به صياح القاطع ، وتحذيره وتخويفه ، فإذا قطعه وبلغ قلته : انقلبت تلك المخاوف كلهن أمانا . وحينئذ يسهل السير ، وتزول عنه عوارض الطريق ، ومشقة عقباتها ، ويرى طريقا واسعا آمنا . يفضي به إلى المنازل والمناهل . وعليه الأعلام . وفيه الإقامات ، قد أعدت لركب الرحمن .  
فبين العبد وبين السعادة والفلاح قوة عزيمة ، وصبر ساعة ، وشجاعة نفس ، وثبات قلب . والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء . والله ذو الفضل العظيم .  
فصل  
وقوله : ويعمى عن نقصان الخلق عن درجته .  
يعني أنه - وإن كان أعلى ممن هو دونه من الناقصين عن درجته - إلا أنه لاشتغاله بالله وامتلاء قلبه من محبته ومعرفته ، والإقبال عليه يشتغل به عن ملاحظة حال غيره ، وعن شهود النسبة بين حاله وأحوال الناس . ويرى اشتغاله بذلك والتفاته إليه نزولا عن مقامه ، وانحطاطا عن درجته ، ورجوعا على عقبيه . فإن هجم عليه ذلك - بغير استدعاء واختيار - فليداوه بشهود المنة ، وخوف المكر ، وعدم علمه بالعاقبة التي يوافى عليها . والله المستعان .