مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل منزلة الورع

ومن منازل " إياك نعبد وإياك نستعين " منزلة الورع .

قال الله تعالى : ( ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ) وقال تعالى : ( وثيابك فطهر ) قال قتادة ومجاهد : نفسك فطهر من الذنب . فكنى عن النفس بالثوب . وهذا قول إبراهيم ، النخعي و الضحاك ، و الشعبي ، والزهري ، والمحققين من أهل التفسير . قال ابن عباس : لا تلبسها على معصية ولا غدر . ثم قال : أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي :

وإني - بحمد الله - لا ثوب غادر لبست ولا من غدرة أتقنع والعرب تقول في وصف الرجل بالصدق والوفاء : طاهر الثياب . وتقول للغادر والفاجر : دنس الثياب . وقال أبي بن كعب : لا تلبسها على الغدر ، والظلم والإثم . ولكن البسها وأنت بر طاهر .

[ ص: 23 ] وقال الضحاك : عملك فأصلح . قال السعدي : يقال للرجل إذا كان صالحا : إنه لطاهر الثياب . وإذا كان فاجرا : إنه لخبيث الثياب . وقال سعيد بن جبير : وقلبك وبيتك فطهر . وقال الحسن و القرظي : وخلقك فحسن .

وقال ابن سيرين و ابن زيد : أمر بتطهير الثياب من النجاسات التي لا تجوز الصلاة معها ؛ لأن المشركين كانوا لا يتطهرون ، ولا يطهرون ثيابهم .

وقال طاوس : وثيابك فقصر ؛ لأن تقصير الثياب طهرة لها .

والقول الأول أصح الأقوال .

ولا ريب أن تطهيرها من النجاسات وتقصيرها من جملة التطهير المأمور به ، إذ به تمام إصلاح الأعمال والأخلاق ؛ لأن نجاسة الظاهر تورث نجاسة الباطن . ولذلك أمر القائم بين يدي الله عز وجل بإزالتها والبعد عنها .

والمقصود أن الورع يطهر دنس القلب ونجاسته . كما يطهر الماء دنس الثوب ونجاسته . وبين الثياب والقلوب مناسبة ظاهرة وباطنة . ولذلك تدل ثياب المرء في المنام على قلبه وحاله . ويؤثر كل منهما في الآخر . ولهذا نهى عن لباس الحرير والذهب ، وجلود السباع ، لما تؤثر في القلب من الهيئة المنافية للعبودية والخشوع . وتأثير القلب والنفس في الثياب أمر خفي يعرفه أهل البصائر من نظافتها ودنسها ورائحتها ، وبهجتها وكسفتها ، حتى إن ثوب البر ليعرف من ثوب الفاجر ، وليسا عليهما .

وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورع كله في كلمة واحدة . فقال : " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " فهذا يعم الترك لما لا يعني من الكلام ، والنظر ، والاستماع ، والبطش ، [ ص: 24 ] والمشي ، والفكر ، وسائر الحركات الظاهرة والباطنة . فهذه الكلمة كافية شافية في الورع .

قال إبراهيم بن أدهم : الورع ترك كل شبهة ، وترك مالا يعنيك هو ترك الفضلات . وفي الترمذي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم : يا أبا هريرة كن ورعا ، تكن أعبد الناس .

قال الشبلي : الورع أن يتورع عن كل ما سوى الله . وقال إسحاق بن خلف : الورع في المنطق أشد منه في الذهب والفضة ، والزهد في الرياسة أشد منه في الذهب والفضة ، لأنهما يبذلان في طلب الرياسة .

وقال أبو سليمان الداراني : الورع أول الزهد ، كما أن القناعة أول الرضا .

وقال يحيى بن معاذ : الورع الوقوف على حد العلم من غير تأويل . وقال : الورع على وجهين . ورع في الظاهر ، وورع في الباطن ، فورع الظاهر أن لا يتحرك إلا لله ، وورع الباطن هو أن لا تدخل قلبك سواه . وقال : من لم ينظر في الدقيق من الورع لم يصل إلى الجليل من العطاء .

وقيل : الورع الخروج من الشهوات ، وترك السيئات .

وقيل : من دق في الدنيا ورعه - أو نظره - جل في القيامة خطره .

وقال يونس بن عبيد : الورع الخروج من كل شبهة ، ومحاسبة النفس في كل طرفة عين .

[ ص: 25 ] وقال سفيان الثوري : ما رأيت أسهل من الورع ، ما حاك في نفسك فاتركه .

وقال سهل : الحلال هو الذي لا يعصى الله فيه ، والصافي منه الذي لا ينسى الله فيه ، وسأل الحسن غلاما . فقال له : ما ملاك الدين ؟ قال : الورع . قال : فما آفته ؟ قال : الطمع . فعجب الحسن منه .

وقال الحسن : مثقال ذرة من الورع خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة .

وقال أبو هريرة : جلساء الله غدا أهل الورع والزهد .

وقال بعض السلف : لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس .

وقال بعض الصحابة : كنا ندع سبعين بابا من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام .

التالي السابق


الخدمات العلمية