مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
[ ص: 34 ] قال : الدرجة الثالثة تجريد الانقطاع إلى السبق بتصحيح الاستقامة ، والاستغراق في قصد الوصول ، والنظر إلى أوائل الجمع .

لما جعل الدرجة الأولى انقطاعا عن الخلق ، والثانية انقطاعا عن النفس ، جعل الثالثة طلبا للسبق . وجعله بتصحيح الاستقامة . وهي الإعراض عما سوى الحق . ولزوم الإقبال عليه ، والاشتغال بمحابه . ثم بالاستغراق في قصد الوصول .

وهو أن يشغله طلب الوصول عن كل شيء بحيث يستغرق همومه وعزائمه وإرادته وأوقاته . وإنما يكون ذلك بعد بدو برق الكشف المذكور له .

وأما النظر إلى أوائل الجمع فالجمع هو قيام الخلق كلهم بالحق وحده . وقيامه عليهم بالربوبية والتدبير .

والنظر إلى أوائل ذلك هو الالتفات إلى مقدماته وبداياته . وهي العقبة التي ينحدر منها على وادي الفناء .

وقد قيل : إنها وقفة تعترض القاطع لأودية التفرقة قبل وصوله إلى الجمع . ومنها يشرف عليه .

وهذه الوقفة تعترض كل طالب مجد في طلبه . فمنها يرجع على عقبه ، أو يصل إلى مطلبه كما قيل :

لابد للعاشق من وقفة

ما بين سلوان وبين غرام وعندها ينقل أقدامه إما إلى خلف وإما أمام

والذي يظهر لي من كلامه أن أوائل الجمع مبادئه ولوائحه وبوارقه .

وبعد هذا درجة رابعة . وهي الانقطاع عن مراده من ربه . والفناء عنه إلى مراد ربه منه ، والفناء به . فلا يريد منه ، بل يريد ما يريده ، منقطعا به عن كل إرادة . فينظر في أوائل الجمع في مراده الديني الأمري الذي يحبه ويرضاه .

وأكثر أرباب السلوك عندهم : ( إياك نعبد ) فرق ، ( وإياك نستعين ) جمع .

ثم منهم من يرى أن ترك الجمع زندقة وكفر . فهو يعرض عن الجمع إلى الفرق .

ومنهم من يرى أن مقام التفرقة ناقص مرغوب عنه . ويرى سوء حال أهله [ ص: 35 ] وتشتتهم . فيرغب عنه عاملا على الجمع . يتوجه معه حيث توجهت ركائبه .

والمستقيمون منهم يقولون : لا بد للعبد السالك من جمع وفرق ، وقيام العبودية بهما . فمن لا تفرقة له لا عبودية له . ومن لا جمع له لا معرفة له ولا حال .

ف : ( إياك نعبد ) فرق . : ( وإياك نستعين ) جمع .

والحق : أن كلا من مشهدي ( إياك نعبد وإياك نستعين ) متضمن للفرق والجمع ، وكمال العبودية بالقيام بهما في كل مشهد .

ففرق : ( إياك نعبد ) تنوع ما يعبد به ، وكثرة تعلقاته وضروبه .

وجمعه : توحيد المعبود بذلك كله . وإرادة وجهه وحده ، والفناء عن كل حظ ومراد يزاحم حقه ومراده .

فتضمن هذا المشهد فرقا في جمع ، وكثرة في وحدة . فصاحبه يتنقل في منازل العبودية من عبادة إلى عبادة ، ومعبود واحد ، لا إله إلا هو .

وأما فرق : ( وإياك نستعين ) فشهود ما يستعين به عليه ، ومرتبته ومنزلته ، ومحله من النفع والضر ، وبدايته وعاقبته ، واتصاله - بل وانفصاله - وما يترتب عليه من هذا الاتصال والانفصال .

ويشهد - مع ذلك - فقر المستعين وحاجته ونقصه ، وضرورته إلى كمالاته التي يستعين ربه في تحصيلها ، وآفاته التي يستعين ربه في دفعها . ويشهد حقيقة الاستعانة وكفاية المستعان به . وهذا كله فرق يثمر عبودية هذا المشهد .

وأما جمعه : فشهود تفرده سبحانه بالأفعال ، وصدور الكائنات بأسرها عن مشيئته ، وتصريفها بإرادته وحكمته .

فغيبته بهذا المشهد عما قبله من الفرق : نقص في العبودية ، كما أن تفرقه في الذي قبله دون ملاحظته : نقص أيضا . والكمال إعطاء الفرق والجمع حقهما في هذا المشهد والمشهد الأول .

فتبين تضمن : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) للجمع والفرق . والله المستعان .

التالي السابق


الخدمات العلمية