مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

قال صاحب " المنازل " :

الرجاء أضعف منازل المريدين ؛ لأنه معارضة من وجه ، واعتراض من وجه ، وهو وقوع في الرعونة في مذهب هذه الطائفة . وفائدة واحدة نطق بها التنزيل والسنة . وتلك الفائدة هي كونه يرد حرارة الخوف ، حتى لا يفضي بصاحبه إلى اليأس .

شيخ الإسلام حبيب إلينا . والحق أحب إلينا منه . وكل من عدا المعصوم صلى الله عليه وسلم فمأخوذ من قوله ومتروك ، ونحن نحمل كلامه على أحسن محامله . ثم نبين ما فيه .

[ ص: 39 ] أما قوله : الرجاء أضعف منازل المريدين ، فيعني بالنسبة إلى ما فوقه من المنازل ، كمنزلة المعرفة والمحبة ، والإخلاص ، والصدق والتوكل ، لا أن مراده ضعف حال هذه المنزلة في نفسها ، وأنها منزلة ناقصة .

وأما قوله : لأنه معارضة من وجه ، واعتراض من وجه .

فلأنه تعلق بمراد العبد من ربه ، من الإحسان والثواب والإفضال . وقد يكون مراده تعالى من عبده استيفاء حقه ، ومعاملته بحكم عدله له . لما له في ذلك من الحكمة . فإذا أراد العبد منه معاملته بحكم الفضل دخل في نوع معارضة . وكأن الراجي تعلق قلبه بما يعارض تصرف المالك في ملكه . وذلك ينافي حكم استسلامه وانقياده ، وانطراحه بين يدي ربه ، مستسلما لما يحكم به فيه . فرجاؤه معارض لحكمه وإرادته ، ووقوف مع مراده من سيده . وذلك يعارض مراد سيده منه . والمحب الصادق من فني بمراد محبوبه عن مراده منه . ولو كان فيه تعذيبه .

وأما وجه الاعتراض : فهو أن القلب إذا تعلق بالرجاء ولم يظفر بمرجوه اعترض . حيث لم يحصل له مرجوه ، ولم يظفر به . وإن ظفر به اعترض . حيث فاته غير ذلك المرجو ؛ لأن كل أحد يرجو فضل الله . ويحدث نفسه به .

وفيه وجه آخر من الاعتراض : وهو أن يعترض على ربه تعالى بما يرجو منه ؛ لأن الراجي متمن لما يرجو ، مؤثر له . وذلك اعتراض على القدر ، مناف لكمال الاستسلام والرضا بما سبق به القضاء . فإذا تيقن له أنه سبق القضاء بشيء فإنه لا بد أن يناله . فعلق قلبه برجاء شيء من الفضل . فقد اعترض على القضاء ، ولم يعرف للاستسلام للحكم حقه . وذلك وقوع في الرعونة . في مذهب السائرين على درب الفناء ، الناظرين إلى عين الجمع . إذ الرعونة هي الوقوف مع حظ النفس . والرجاء هو الوقوف مع الحظ ؛ لأنه يتعلق بالحظوظ .

وأصحاب هذه الطريقة أول طريقهم الخروج عن نفوسهم ، فضلا عن حظوظها لأنهم عاملون على أن يكونوا بالله لا بنفوسهم . فغاية المحب أن يرضى بأحكام محبوبه عليه ، ساءته أم سرته ، حتى يبلغ بأحدهم هذا الحال إلى أن ينشد :


أحبك لا أحبك للثواب ولكني أحبك للعقاب     وكل مآربي قد نلت منها سوى ملذوذ وجدي بالعذاب

ولو كان نفس تلذذه بالعذاب مقصوده من العذاب لكان أيضا واقفا مع حظه [ ص: 40 ] ولكن أراد أن رضاه بمراد محبوبه منه - ولو كان عذابه - لم يدع فيه للرجاء موضعا ولا للخوف . بل يقول : أنا أحب ما تريده بي ، ولو أنه عذابي . وقد كشف بعض المغرورين عن هذا بقوله :


وتعذيبي مع الهجران عندي     أحب إلي من طيب الوصال
لأني في الوصال عبيد حظي وفي الهجران عبد للموالي

فأخبر أن التعذيب بالهجران أحب إليه من طيب الوصال ، لكون الوصال فيه ما تشتهيه النفس . وأما التعذيب فليس للنفس فيه مقصود .

ثم أخبر أنه لم يأت في القرآن والسنة إلا لفائدة واحدة . وهي تبريده لحرارة الخوف . حتى لا يفضي بصاحبه إلى الإياس .

وهذا وجه كلامه ، وحمله على أحسن المحامل .

فيقال : هذا ونحوه من الشطحات التي ترجى مغفرتها بكثرة الحسنات ، ويستغرقها كمال الصدق ، وصحة المعاملة ، وقوة الإخلاص ، وتجريد التوحيد ، ولم تضمن العصمة لبشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وهذه الشطحات أوجبت فتنة على طائفتين من الناس . إحداهما حجبت بها عن محاسن هذه الطائفة ، ولطف نفوسهم ، وصدق معاملتهم ، فأهدروها لأجل هذه الشطحات ، وأنكروها غاية الإنكار . وأساءوا الظن بهم مطلقا ، وهذا عدوان وإسراف . فلو كان كل من أخطأ أو غلط ترك جملة ، وأهدرت محاسنه ، لفسدت العلوم والصناعات ، والحكم ، وتعطلت معالمها .

والطائفة الثانية : حجبوا بما رأوه من محاسن القوم ، وصفاء قلوبهم ، وصحة عزائمهم ، وحسن معاملاتهم عن رؤية عيوب شطحاتهم ، ونقصانها . فسحبوا عليها ذيل المحاسن . وأجروا عليها حكم القبول والانتصار لها . واستظهروا بها في سلوكهم .

وهؤلاء أيضا معتدون مفرطون .

والطائفة الثالثة : - وهم أهل العدل والإنصاف - الذين أعطوا كل ذي حق حقه ، وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته ، فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم المعلول ، ولا للمعلول السقيم بحكم الصحيح . بل قبلوا ما يقبل . وردوا ما يرد .

وهذه الشحطات ونحوها هي التي حذر منها سادات القوم ، وذموا عاقبتها . وتبرءوا [ ص: 41 ] منها حتى ذكر أبو القاسم القشيري في رسالته أن أبا سليمان الداراني رؤي بعد موته ، فقيل له : ما فعل الله بك ؟ فقال : غفر لي . وما كان شيء أضر علي من إشارات القوم .

وقال أبو القاسم : سمعت أبا سعيد الشحام يقول : رأيت أبا سهل الصعلوكي في المنام ، فقلت له : أيها الشيخ ، فقال : دع التشييخ . فقلت : وتلك الأحوال ؟ فقال : لم تغن عنا شيئا . فقلت : ما فعل الله بك ؟ قال : غفر لي بمسائل كانت تسأل عنها العجائز .

وذكر عن الجريري : أنه رأى الجنيد في المنام بعد موته ، فقال : كيف حالك يا أبا القاسم ؟ فقال : طاحت تلك الإشارات . وفنيت تلك العبارات . وما نفعنا إلا تسبيحات كنا نقولها بالغدوات .

وقال أبو سليمان الداراني : تعرض علي النكتة من نكت القوم . فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل الكتاب ، والسنة .

وقال الجنيد : مذهبنا مقيد بالكتاب والسنة . فمن لم يقرأ القرآن ، ويكتب [ ص: 42 ] الحديث ، لا يقتدى به في طريقنا .

هذا إلى غير ذلك من الأقوال التي وردت عنهم . رضي الله عنهم .

فأما قوله : الرجاء أضعف منازل المريدين فليس كذلك ، بل هو من أجل منازلهم ، وأعلاها وأشرفها . وعليه وعلى الحب والخوف مدار السير إلى الله . وقد مدح الله تعالى أهله ، وأثنى عليهم . فقال : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ) .

وفي الحديث الصحيح الإلهي عن النبي صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه عز وجل - يا ابن آدم ، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي . وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه . إذا ذكرني في نفسه ، ذكرته في نفسي . وإن ذكرني في ملإ ، ذكرته في ملإ خير منهم . وإن اقترب إلي شبرا ، اقتربت إليه ذراعا . وإن اقترب إلي ذراعا ، اقتربت إليه باعا . وإن أتاني يمشي ، أتيته هرولة . رواه مسلم .

وقد أخبر تعالى عن خواص عباده الذين كان المشركون يزعمون أنهم يتقربون بهم إلى الله تعالى : أنهم كانوا راجين له ، خائفين منه . فقال تعالى : ( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا ) .

يقول تعالى : هؤلاء الذين تدعونهم من دوني : هم عبادي ، يتقربون إلي بطاعتي ، ويرجون رحمتي ، ويخافون عذابي ، فلماذا تدعونهم من دوني ؟ فأثنى عليهم بأفضل أحوالهم ومقاماتهم من الحب ، والخوف والرجاء .

قوله : لأنه معارضة من وجه ، واعتراض من وجه .

[ ص: 43 ] يقال : وهو عبودية ، وتعلق بالله من حيث اسمه المحسن البر فذلك التعلق والتعبد بهذا الاسم والمعرفة بالله هو الذي أوجب للعبد الرجاء ، من حيث يدري ومن حيث لا يدري . فقوة الرجاء على حسب قوة المعرفة بالله وأسمائه وصفاته ، وغلبة رحمته غضبه . ولولا روح الرجاء لعطلت عبودية القلب والجوارح . وهدمت صوامع ، وبيع ، وصلوات ، ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا . بل لولا روح الرجاء لما تحركت الجوارح بالطاعة . ولولا ريحه الطيبة لما جرت سفن الأعمال في بحر الإرادات . ولي من أبيات :


لولا التعلق بالرجاء تقطعت     نفس المحب تحسرا وتمزقا
وكذاك لولا برده بحرارة ال     أكباد ذابت بالحجاب تحرقا
أيكون قط حليف حب لا يرى     برجائه لحبيبه متعلقا ؟ !
أم كلما قويت محبته له     قوي الرجاء فزاد فيه تشوقا
لولا الرجا يحدو المطي لما سرت     بحمولها لديارهم ترجو اللقا

وعلى حسب المحبة وقوتها يكون الرجاء . فكل محب راج خائف بالضرورة فهو أرجى ما يكون لحبيبه ، أحب ما يكون إليه . وكذلك خوفه . فإنه يخاف سقوطه من عينيه . وطرد محبوبه له وإبعاده . واحتجابه عنه . فخوفه أشد خوف . ورجاؤه ذاتي للمحبة . فإنه يرجوه قبل لقائه والوصول إليه . فإذا لقيه ووصل إليه اشتد الرجاء له ، لما يحصل له به من حياة روحه ، ونعيم قلبه من ألطاف محبوبه ، وبره وإقباله عليه ، ونظره إليه بعين الرضا ، وتأهيله في محبته ، وغير ذلك مما لا حياة للمحب ، ولا نعيم ولا فوز إلا بوصوله إليه من محبوبه . فرجاؤه أعظم رجاء ، وأجله وأتمه .

فتأمل هذا الموضع حق التأمل يطلعك على أسرار عظيمة من أسرار العبودية والمحبة . فكل محبة فهي مصحوبة بالخوف والرجاء . وعلى قدر تمكنها من قلب المحب يشتد خوفه ورجاؤه ، لكن خوف المحب لا يصحبه وحشة . بخلاف خوف المسيء ، ورجاء المحب لا يصحبه علة ، بخلاف رجاء الأجير . وأين رجاء المحب من رجاء الأجير ؟ ! وبينهما كما بين حاليهما .

وبالجملة : فالرجاء ضروري للمريد السالك ، والعارف لو فارقه لحظة لتلف أو كاد . فإنه دائر بين ذنب يرجو غفرانه ، وعيب يرجو إصلاحه ، وعمل صالح يرجو قبوله ، واستقامة يرجو حصولها ودوامها ، وقرب من الله ومنزلة عنده يرجو وصوله إليها . ولا ينفك أحد من السالكين عن هذه الأمور أو بعضها . فكيف يكون الرجاء من أضعف منازله . وهذا حاله ؟

[ ص: 44 ] وأما حديث المعارضة والاعتراض فباطل . فإن الراجي ليس معارضا . ولا معترضا ، بل راغبا راهبا . مؤملا لفضل ربه . حسن الظن به ، متعلق الأمل ببره وجوده ، عابدا له بأسمائه : المحسن ، البر ، المعطي ، الحليم ، الغفور ، الجواد ، الوهاب ، الرزاق . والله سبحانه وتعالى يحب من عبده أن يرجوه . ولذلك كان عند رجاء العبد له وظنه به .

والرجاء من الأسباب التي ينال بها العبد ما يرجوه من ربه ، بل هو من أقوى الأسباب . ولو تضمن معارضة واعتراضا لكان ذلك في الدعاء والمسألة أولى فكان دعاء العبد ربه وسؤاله - أن يهديه ويوفقه ويسدده ، ويعينه على طاعته ويجنبه معصيته ، ويغفر ذنوبه ، ويدخله جنته ، وينجيه من النار - معارضة واعتراضا ؛ لأن الداعي راج وطالب ما يرجوه . فهو أولى حينئذ بالمعارضة والاعتراض .

والذي أوجب للشيخ هذا القدر : الاسترسال في القدر . والفناء في شهود الحقيقة الكونية . فإنه من الراسخين فيه ، الذين لا تأخذهم فيه لومة لائم . وهو شديد في إنكار الأسباب . وهذا موضع زلت فيه أقدام أئمة أعلام .

ولولا أن حق الحق أوجب من حق الخلق لكان في الإمساك فسحة ومتسع .

وليس في الرجاء ولا في الدعاء معارضة لتصرف المالك في ملكه . فإنه إنما يرجو تصرفه في ملكه أيضا بما هو أولى وأحب الأمرين إليه . فإن الفضل أحب إليه من العدل ، والعفو أحب إليه من الانتقام ، والمسامحة أحب إليه من الاستقصاء ، والترك أحب إليه من الاستيفاء ، ورحمته غلبت غضبه .

فالراجي علق رجاءه بتصرفه المحبوب له المرضي له . فلم يوجب رجاؤه خروجه عن تصرفه في ملكه . بل اقتضى عبوديته ، وحصول أحب التصرفين إليه . وهو سبحانه وتعالى لا ينتفع باستيفاء حقه وعقوبة عبده ، حتى يكون رجاؤه مبطلا لذلك . وإنما العبد استدعى العقوبة ، وأخذ الحق منه لشركه بالله وكفره به . واجتهاده في غضبه . ولغضبه موجبات وآثار ومقتضيات ، والعبد مؤثر لها ، ساع في تحصيلها ، عامل عليها بإيثاره إياها وسعيه في أسبابها . فهو المهلك لنفسه . وربه يحذره ويبصره ويناديه : هلم إلي أحمك وأصنك ، وأنجك مما تحذر ، وأؤمنك من كل ما تخاف ، وهو يأبى إلا شرودا عليه ونفارا عنه ، ومصالحة لعدوه ، ومظاهرة له على ربه . ومتطلبا لمرضاة خلقه بمساخطه . رضا المخلوق آثر عنده من رضا خالقه . وحقه آكد عنده من حقه . وخوفه ورجاؤه وحبه في قلبه أعظم من خوفه من الله ورجائه وحبه . فلم يدع لفضل ربه وكرامته وثوابه إليه طريقا ، بل سد دونه طرق مجاريها بجهده . وأعطى بيده لعدوه . فصالحه وسمع له [ ص: 45 ] وأطاع . وانقاد إلى مرضاته . فجاء من الظلم بأقبحه وأشده .

فهو الذي عارض مراده به منه بمراده وهواه وشهوته . واعترض لمحابه ومراضيه بالدفع . ولم يأذن لها في الدخول عليه . فأضاع حظه وبخس حقه . وظلم نفسه . وعادى حبيبه . ووالى عدوه . وأسخط من حياته في رضاه . وأرضى من حياته في سخطه . وجاد بنفسه لعدوه . وبخل بها عن حبيبه ووليه .

والرب تبارك وتعالى ليس له ثأر عند عبده فيدركه بعقوبته . ولا يتشفى بعقابه . ولا يزيد ذلك في ملكه مثقال ذرة من ملكه . كيف ، والرحمة أوسع من العقوبة وأسبق من الغضب وأغلب له ؟ وهو قد كتب على نفسه الرحمة . فرجاء العبد له لا ينقص شيئا من حكمته . ولا ينقص ذرة من ملكه . ولا يخرجه عن كمال تصرفه . ولا يوجب خلاف كماله . ولا تعطيل أوصافه وأسمائه . ولولا أن العبد هو الذي سد على نفسه طرق الخيرات ، وأغلق دونها أبواب الرحمة بسوء اختياره لنفسه لكان ربه له فوق رجائه وفوق أمله .

وأما استسلام العبد لربه ، واستسلامه بانطراحه بين يديه ، ورضاه بمواقع حكمه فيه فما ذاك إلا رجاء منه أن يرحمه ، ويقيله عثرته ويعفو عنه ، ويقبل حسناته مع عيوب أعماله وآفاتها . ويتجاوز عن سيئاته . فقوة رجائه أوجبت له هذا الاستسلام والانقياد ، والانطراح بالباب . ولا يتصور هذا بدون الرجاء ألبتة . فالرجاء حياة الطلب . والإرادة روحها .

وأما رضاه بمراده منه وإن عذبه فهذا هو الرعونة كل الرعونة . فإن مراده سبحانه نوعان : مراد يحبه ويرضاه . ويمدح فاعله ويواليه . فموافقته في هذا المراد هي عين محبته ، وإرادة خلافه رعونة ومعارضة واعتراض . ومراد يبغضه ويكرهه ويمقت فاعله ويعاديه . فموافقته في هذا المراد عين مشاقته ومعاداته ومخالفته والتعرض لمقته وسخطه .

فهذا الموضع موضع فرقان . فالموافقة كل الموافقة معارضة هذا المراد ، واعتراضه بالدفع والرد بالمراد الآخر .

فالعبودية الحق معارضة مراده بمراده ، ومزاحمة أحكامه بأحكامه .

فاستسلامه لهذا المراد المكروه المسخوط ، وما يوجبه ويقتضيه عين الرعونة . والخروج عن العبودية . وهو عين الدعوى الكاذبة ؛ إذ لو كان مصدر ذلك الاستسلام والموافقة ، وترك الاعتراض والمعارضة ، لكان ذلك مخصوصا بمحابه ومراضيه ، وأوامره [ ص: 46 ] التي الاستسلام لها والموافقة فيها ، وترك معارضتها ، والاعتراض عليها - هو عين المحبة والموالاة .

وأما الفناء بمراد ربه فقد تقدم أن المحمود منه هو ذلك الفناء بمراده الديني الأمري ، لا الكوني القدري . فإن الكون كله مراده القدري خيره وشره .

وأما تعلق الرجاء بمراده دون مراد سيده فهو إنما علقه بمراده المحبوب له ، هاربا من مراده المسخوط المكروه له . وعلى تقدير أن يكون محبوبا له - إذا كان انتقاما - فالعفو والفضل أحب إليه منه . فهو إنما علق رجاءه بأحب المرادين إليه .

وأما كون الرجاء اعتراضا على ما سبق به الحكم : فليس كذلك . بل تعلقا بما سبق به الحكم . فإنه إنما يرجو فضلا وإحسانا ، ورحمة سبق بها القضاء والقدر ، وجعل الرجاء أحد أسباب حصولها . فليس الرجاء اعتراضا على القدر ، ولا معارضة للقدر . بل طلبا لما سبق به القدر .

وأما اعتراضه إذا لم يحصل له مرجوه فهذا نقص في العبودية ، وجهل بحق الربوبية . فإن الراجي والداعي يرجو ويدعو فضلا لا يستحقه ، ولا يستوجبه بمعاوضة . فإن أعطيه فمحض المنة والصدقة عليه ، وإن منعه فلم يمنع حقا هو له . فاعتراضه رعونة وجهالة . ولا يلزم من فوات المرجو ، أو عدم حصول المدعو به في حق العبد الصادق ، معارضة ولا اعتراض .

وقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه تبارك وتعالى ثلاث خصال لأمته . فأعطاه اثنتين ومنعه واحدة . فرضي بما أعطاه . ولم يعترض فيما منعه بل رضي وسلم .

وأما كون الرجاء وقوفا مع الحظ ، وأصحاب هذه الطريقة قد خرجوا عن نفوسهم فكيف حظوظهم ؟

فيا لله العجب ! أي رعونة فيمن يجعل رجاء العبد ربه ، وطمعه في بره وإحسانه وفضله ، وسؤاله ذلك بقلبه ولسانه ؟ فإن الرجاء هو استشراف القلب لنيل ما يرجوه . فإذا كان العبد دائما مستشرفا بقلبه ، سائلا بلسانه ، طالبا لفضل ربه . فأي رعونة هاهنا ؟ وهل [ ص: 47 ] الرعونة كل الرعونة إلا خلاف ذلك ؟

ومن العجب دعواهم خروجهم عن نفوسهم . وهم أعظم الناس عبادة لنفوسهم . وليس الخارج عن نفسه إلا من جعلها حبسا على مراد الله الديني الأمري النبوي . وبذلها لله في إقامة دينه . وتنفيذه بين أهل العناد والمعارضة والبغي . فانغمس فيهم يمزقون أديمه ، ويرمونه بالعظائم . ويخيفونه بأنواع المخاوف ، ويتطلبون دمه بجهدهم ، لا تأخذه في جهادهم في الله لومة لائم . يصدع بالحق عند من يخافه ويرجوه ، قد زهد في مدحهم وثنائهم . وتعظيمهم وتشييخهم له ، وتقبيل يده وقضاء حوائجه . يصيح فيهم بالنصائح جهارا . ويعلن لهم بها . ويسر لهم إسرارا . قد تجرد عن الأوضاع والقيود والرسوم . وتعلق بمراضي الحي القيوم . مقامه ساعة في جهاد أعداء الله . ورباطه ليلة على ثغر الإيمان ، آثر عنده وأحب إليه من فناء ومشاهدات وأحوال هي أعظم عيش النفس وأعلى قوتها ، وأوفر حظها . ويزعم أنه قد خرج عن نفسه ؛ فكيف حظها ؟ ولعله قد خرج عن مراد ربه من عبوديته إلى عين مراده . وهو حظه . ولو فتش نفسه لرأى ذلك فيها عيانا .

وهل الرعونة كل الرعونة إلا دعواه أنه يحب ربه لعذابه لا لثوابه ؟ وأنه إذا أحبه وأطاعه للثواب كان ذلك حظا وإيثارا لمراد النفس ؟ بخلاف ما إذا أحبه وأطاعه ليعذبه . فإنه لا حظ للنفس في ذلك ؟

فوالله ليس في أنواع الرعونة والحماقة أقبح من هذا ولا أسمج . وماذا يلعب الشيطان بالنفوس ؟ وإن نفسا وصل بها تلبيس الشيطان إلى هذه الحالة المحتاجة إلى سؤال المعافاة .

فزن أحوال الأنبياء والرسل والصديقين ، وسؤالهم ربهم ، على أحوال هؤلاء الغالطين ، الذين مرجت بهم نفوسهم . ثم قايس بينهما . وانظر التفاوت .

فأين هذا من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وبك منك ، لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك ؟ وقوله لعمه العباس رضي الله عنه : يا عباس ، يا عم رسول الله ، سل الله العافية . وقوله للصديق [ ص: 48 ] الأكبر رضي الله عنه - وقد سأله أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته - قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا . ولا يغفر الذنوب إلا أنت . فاغفر لي مغفرة من عندك . وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم . وقوله لصديقة النساء - وقد سألته دعاء تدعو به ، إن وافقت ليلة القدر - فقال : قولي : اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني . وقوله في دعائه الذي كان لا يدعه : وإن دعا بدعاء أردفه إياه : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة . وقنا عذاب النار ؟

وقد أثنى الله تعالى على خاصته ، وهم أولو الألباب ، بأنهم سألوه أن يقيهم عذاب النار ، فقالوا : ( ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة : لو سألت الله أن يجيرك من عذاب النار لكان خيرا لك ، وكان يستعيذ كثيرا من عذاب النار . ومن عذاب القبر ، وأمر المسلمين أن يستعيذوا في تشهدهم من عذاب القبر ، وعذاب النار . وفتنة المحيا والممات . وفتنة المسيح الدجال حتى قيل : [ ص: 49 ] إن هذا الدعاء واجب في الصلاة . لا تصح إلا به . وهذا أعظم من أن نستقصيه .

ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مريض يعوده . فرآه مثل الفرخ فقال : ما كنت تدعو به ؟ فقال : كنت أقول : اللهم ما كنت معاقبني به في الآخرة فعاقبني به في الدنيا . فقال : سبحان الله ! إنك لا تطيق ذلك . ألا سألت الله العفو والعافية ؟ .

وفي المسند عنه صلى الله عليه وسلم قال : ما سئل الله شيئا أحب إليه من سؤال العفو والعافية . وقال لبعض أصحابه : ما تقول إذا صليت ؟ فقال : أسأل الله الجنة . وأعوذ به من النار ، أما إني لا أحسن دندنتك ، ولا دندنة معاذ . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنا حولها ندندن .

فأين هذا من حال من قال : لا أحبك لثوابك ؛ لأنه عين حظي . وإنما أحبك لعقابك ؛ لأنه لا حظ لي فيه . والرجاء عين الحظ . ونحن قد خرجنا عن نفوسنا ، فما لنا وللرجاء ؟ .

فهذا وأمثاله أحسن ما يقال فيهم : إنه شطح قد يعذر فيه صاحبه إذا كان مغلوبا على عقله . كالسكران ونحوه . ولا تهدر محاسنه ومعاملاته وأحواله وزهده .

ولكن الذي ينكر كون هذا من الأحوال الصحيحة ، والمقامات العلية . التي يتعاطاها العبد . ويشمر إليها . فهذا الذي لا تلبس عليه الثياب . ولا تصبر عليه نفوس العلماء . وحاشا سادات القوم وأئمتهم من هذه الرعونات . بل هم أبعد الناس منها .

[ ص: 50 ] نعم ، قد يعرض لأحدهم حال يحدث نفسه فيه بأنه لو عذبه لكان راضيا بعذابه ، كرضا صاحب الثواب بثوابه . ويعزم على ذلك بقلبه . ولكن هذا عزم وأمنية ، وعند الحقيقة لا يكون لذلك أثر ألبتة . ولو امتحنه بأدنى محنة لصاح واستغاث . وسأل العافية . كما جرى للقائل . وهو سمنون :


وليس لي من هواك بد     فكيفما شئت فامتحني

فامتحنه بعسر البول . فطاحت هذه الدعوى منه ، واضمحل حالها . وجعل يطوف على صبيان المكاتب ، ويقول : ادعوا لعمكم الكذاب .

فالعزم على الرضا لون . وحقيقته لون آخر .

وأما قوله : وإنما نطق به التنزيل : لفائدة . وهي كونه يبرد حرارة الخوف

فيقال : بل لفوائد كثيرة أخر مشاهدة .

منها : إظهار العبودية والفاقة ، والحاجة إلى ما يرجوه من ربه ، ويستشرفه من إحسانه ، وأنه لا يستغني عن فضله وإحسانه طرفة عين .

ومنها أنه سبحانه يحب من عباده أن يؤملوه ويرجوه . ويسألوه من فضله ؛ لأنه الملك الحق الجواد ، أجود من سئل ، وأوسع من أعطى . وأحب ما إلى الجواد أن يرجى ويؤمل ويسأل . وفي الحديث من لم يسأل الله يغضب عليه ، والسائل راج وطالب . فمن لم يرج الله يغضب عليه .

فهذه فائدة أخرى من فوائد الرجاء . وهي التخلص به من غضب الله .

[ ص: 51 ] ومنها أن الرجاء حاد يحدو به في سيره إلى الله . ويطيب له المسير . ويحثه عليه . ويبعثه على ملازمته . فلولا الرجاء لما سار أحد . فإن الخوف وحده لا يحرك العبد . وإنما يحركه الحب . ويزعجه الخوف . ويحدوه الرجاء .

ومنها أن الرجاء يطرحه على عتبة المحبة ، ويلقيه في دهليزها . فإنه كلما اشتد رجاؤه وحصل له ما يرجوه ازداد حبا لله تعالى ، وشكرا له ، ورضا به وعنه .

ومنها أنه يبعثه على أعلى المقامات . وهو مقام الشكر ، الذي هو خلاصة العبودية . فإنه إذا حصل له مرجوه كان أدعى لشكره .

ومنها أنه يوجب له المزيد من معرفة الله وأسمائه ومعانيها ، والتعلق بها . فإن الراجي متعلق بأسمائه الحسنى ، متعبد بها ، داع بها . قال الله تعالى : ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ) فلا ينبغي أن يعطل دعاؤه بأسمائه الحسنى التي هي أعظم ما يدعو بها الداعي . فالقدح في مقام الرجاء تعطيل لعبودية هذه الأسماء ، وتعطيل للدعاء بها .

ومنها : أن المحبة لا تنفك عن الرجاء - كما تقدم - فكل واحد منهما يمد الآخر ويقويه .

ومنها : أن الخوف مستلزم للرجاء . والرجاء مستلزم للخوف . فكل راج خائف . وكل خائف راج . ولأجل هذا حسن وقوع الرجاء في موضع يحسن فيه وقوع الخوف . قال الله تعالى : ( ما لكم لا ترجون لله وقارا ) قال كثير من المفسرين : المعنى ما لكم لا تخافون لله عظمة ؟ قالوا : والرجاء بمعنى الخوف .

والتحقيق أنه ملازم له . فكل راج خائف من فوات مرجوه . والخوف بلا رجاء يأس وقنوط . وقال تعالى : ( قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ) قالوا في تفسيرها : لا يخافون وقائع الله بهم ، كوقائعه بمن قبلهم من الأمم .

ومنها : أن العبد إذا تعلق قلبه برجاء ربه ، فأعطاه ما رجاه ، كان ذلك ألطف موقعا ، وأحلى عند العبد . وأبلغ من حصول ما لم يرجه . وهذا أحد الأسباب والحكم [ ص: 52 ] في جعل المؤمنين بين الرجاء والخوف في هذه الدار . فعلى قدر رجائهم وخوفهم يكون فرحهم في القيامة بحصول مرجوهم واندفاع مخوفهم .

ومنها : أن الله سبحانه وتعالى يريد من عبده تكميل مراتب عبوديته من الذل والانكسار ، والتوكل والاستعانة ، والخوف والرجاء ، والصبر والشكر ، والرضا والإنابة وغيرها . ولهذا قدر عليه الذنب وابتلاه به ، لتكمل مراتب عبوديته بالتوبة التي هي من أحب عبوديات عبده إليه ، فكذلك تكميلها بالرجاء والخوف .

ومنها : أن في الرجاء - من الانتظار والترقب والتوقع لفضل الله - ما يوجب تعلق القلب بذكره ودوام الالتفات إليه بملاحظة أسمائه وصفاته ، وتنقل القلب في رياضها الأنيقة ، وأخذه بنصيبه من كل اسم وصفة - كما تقدم بيانه - فإذا فنى عن ذلك وعاب عنه ، فاته حظه ونصيبه من معاني هذه الأسماء والصفات .

إلى فوائد أخرى كثيرة . يطالعها من أحسن تأمله وتفكره في استخراجها . وبالله التوفيق .

والله يشكر لشيخ الإسلام سعيه ، ويعلي درجته . ويجزيه أفضل جزائه . ويجمع بيننا وبينه في محل كرامته . فلو وجد مريده سعة وفسحة في ترك الاعتراض عليه واعتراض كلامه لما فعل . كيف وقد نفعه الله بكلامه ؟ وجلس بين يديه مجلس التلميذ من أستاذه ، وهو أحد من كان على يديه فتحه يقظة ومناما ؟

وهذا غاية جهد المقل في هذا الموضع . فمن كان عنده فضل علم فليجد به ، أو فليعذر ، ولا يبادر إلى الإنكار . فكم بين الهدهد ونبي الله سليمان ؟ وهو يقول له : ( أحطت بما لم تحط به ) وليس شيخ الإسلام أعلم من نبي الله . ولا المعترض عليه بأجهل من هدهد . وبالله المستعان وهو أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية