مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل منزلة الرعاية

ومن منازل : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) منزلة الرعاية .

وهي مراعاة العلم وحفظه بالعمل . ومراعاة العمل بالإحسان والإخلاص . وحفظه من المفسدات . ومراعاة الحال بالموافقة . وحفظه بقطع التفريق . فالرعاية صيانة وحفظ .

ومراتب العلم والعمل ثلاثة : رواية : وهي مجرد النقل وحمل المروي . ودراية : وهي فهمه وتعقل معناه . و رعاية : وهي العمل بموجب ما علمه ومقتضاه .

فالنقلة همتهم الرواية . والعلماء همتهم الدراية . والعارفون همتهم الرعاية . وقد ذم الله من لم يرع ما اختاره وابتدعه من الرهبانية حق رعايته . فقال تعالى : ( وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها ) .

" رهبانية " منصوب ب " ابتدعوها " على الاشتغال . إما بنفس الفعل المذكور - على قول الكوفيين - وإما بمقدر محذوف مفسر بهذا المذكور - على قول البصريين - أي : وابتدعوا رهبانية . وليس منصوبا بوقوع الجعل عليه .

فالوقوف التام عند قوله : ( ورحمة ) ثم يبتدئ : ( ورهبانية ابتدعوها ) أي : لم نشرعها لهم . بل هم ابتدعوها من عند أنفسهم ، ولم نكتبها عليهم .

وفي نصب قوله : ( إلا ابتغاء رضوان الله ) ثلاثة أوجه .

[ ص: 61 ] أحدها : أنه مفعول له ، أي لم نكتبها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله . وهذا فاسد . فإنه لم يكتبها عليهم سبحانه . كيف وقد أخبر : أنهم هم ابتدعوها . فهي مبتدعة غير مكتوبة . وأيضا فإن المفعول لأجله يجب أن يكون علة لفعل الفاعل المذكور معه . فيتحد السبب والغاية . نحو : قمت إكراما . فالقائم هو المكرم . وفعل الفاعل المعلل هاهنا هو الكتابة و " ابتغاء رضوان الله " فعلهم ، لا فعل الله . فلا يصلح أن يكون علة لفعل الله . لاختلاف الفاعل .

وقيل : بدل من مفعول " كتبناها " ؛ أي ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله .

وهو فاسد أيضا ؛ إذ ليس ابتغاء رضوان الله عين الرهبانية ، فتكون بدل الشيء من الشيء . ولا بعضها ، فتكون بدل بعض من كل . ولا أحدهما مشتمل على الآخر . فتكون بدل اشتمال . وليس بدل غلط .

فالصواب أنه منصوب نصب الاستثناء المنقطع . أي لم يفعلوها ولم يبتدعوها إلا لطلب رضوان الله . ودل على هذا قوله " ابتدعوها " ثم ذكر الحامل لهم والباعث على ابتداع هذه الرهبانية ، وأنه هو طلب الرضوان . ثم ذمهم بترك رعايتها ؛ إذ من التزم لله شيئا لم يلزمه الله إياه من أنواع القرب لزمه رعايته وإتمامه . حتى ألزم كثير من الفقهاء من شرع في طاعة مستحبة حكمه بإتمامها . وجعلوا التزامها بالشروع كالتزامها بالنذر . كما قال أبو حنيفة و مالك و أحمد في إحدى الروايتين عنه وهو إجماع - أو كالإجماع - في أحد النسكين .

قالوا : والالتزام بالشروع أقوى من الالتزام بالقول . فكما يجب عليه ما التزمه بالنذر وفاء ، يجب عليه رعاية ما التزمه بالفعل إتماما .

وليس هذا موضع استقصاء هذه المسألة .

والقصد : أن الله سبحانه وتعالى ذم من لم يرع قربة ابتدعها لله تعالى حق رعايتها ؛ فكيف بمن لم يرع قربة شرعها الله لعباده ، وأذن بها وحث عليها ؟ !

التالي السابق


الخدمات العلمية