مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

قال صاحب " المنازل " :

الرعاية صون بالعناية . وهي على ثلاث درجات درجات الرعاية . الدرجة الأولى : رعاية الأعمال . والثانية : رعاية الأحوال . والثالثة : رعاية الأوقات .

[ ص: 62 ] فأما رعاية الأعمال فتوفيرها بتحقيرها . والقيام بها من غير نظر إليها . وإجراؤها على مجرى العلم ، لا على التزين بها .

أما قوله : صون بالعناية أي حفظ بالاعتناء ، والقيام بحق الشيء الذي يرعاه . ومنه راعي الغنم .

وقوله : أما رعاية الأعمال : فتوفيرها بتحقيرها . فالتوفير : سلامة من طرفي التفريط بالنقص ، والإفراط بالزيادة على الوجه المشروع في حدودها وصفاتها وشروطها وأوقاتها .

وأما تحقيرها فاستصغارها في عينه . واستقلالها ، وأن ما يليق بعظمة الله وجلاله وحقوق عبوديته أمر آخر . وأنه لم يوفه حقه . وأنه لا يرضى لربه بعمله ، ولا بشيء منه .

وقد قيل : علامة رضا الله عن الإنسان عنك إعراضك عن نفسك . وعلامة قبول عملك علامة قبول العمل احتقاره واستقلاله ، وصغره في قلبك . حتى إن العارف ليستغفر الله عقيب طاعته . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة استغفر الله ثلاثا .

وأمر الله عباده بالاستغفار عقيب الحج . ومدحهم على الاستغفار عقيب قيام الليل . وشرع النبي صلى الله عليه وسلم عقيب الطهور التوبة والاستغفار .

فمن شهد واجب ربه ومقدار عمله ، وعيب نفسه لم يجد بدا من استغفار ربه منه ، واحتقاره إياه واستصغاره .

وأما القيام بها فهو توفيتها حقها ، وجعلها قائمة كالشهادة القائمة ، والصلاة القائمة ، والشجرة القائمة على ساقها التي ليست بساقطة .

وقوله : من غير نظر إليها ؛ أي من غير أن يلتفت إليها ويعددها ويذكرها مخافة العجب والمنة بها . فيسقط من عين الله . ويحبط عمله .

وقوله : وإجراؤها على مجرى العلم هو أن يكون العمل على مقتضى العلم المأخوذ [ ص: 63 ] من مشكاة النبوة ، إخلاصا لله . وإرادة لوجهه . وطلبا لمرضاته ، لا على وجه التزين بها عند الناس .

التالي السابق


الخدمات العلمية