مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل منزلة المراقبة

ومن منازل : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) منزلة المراقبة .

قال الله تعالى : ( واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه ) . وقال تعالى : [ ص: 65 ] : ( وكان الله على كل شيء رقيبا ) وقال تعالى : ( وهو معكم أين ما كنتم ) ، وقال تعالى : ( ألم يعلم بأن الله يرى ) ، وقال تعالى : ( فإنك بأعيننا ) ، وقال تعالى : ( يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ) . إلى غير ذلك من الآيات .

وفي حديث جبريل عليه السلام : أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان ؟ فقال له : أن تعبد الله كأنك تراه . فإن لم تكن تراه فإنه يراك .

المراقبة تعريفها : دوام علم العبد ، وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه . فاستدامته لهذا العلم واليقين هي المراقبة وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب عليه ، ناظر إليه ، سامع لقوله . وهو مطلع على عمله كل وقت وكل لحظة ، وكل نفس وكل طرفة عين . والغافل عن هذا بمعزل عن حال أهل البدايات . فكيف بحال المريدين ؟ فكيف بحال العارفين ؟ .

قال الجريري : من لم يحكم بينه وبين الله تعالى التقوى والمراقبة : لم يصل إلى الكشف والمشاهدة

وقيل : من راقب الله في خواطره ، عصمه في حركات جوارحه .

وقيل لبعضهم : متى يهش الراعي غنمه بعصاه عن مراتع الهلكة ؟ فقال : إذا علم أن عليه رقيبا .

وقال الجنيد : من تحقق في المراقبة خاف على فوات لحظة من ربه لا غير .

وقال ذو النون : علامة المراقبة إيثار ما أنزل الله ، وتعظيم ما عظم الله ، وتصغير ما [ ص: 66 ] صغر الله .

وقيل : الرجاء يحرك إلى الطاعة ، والخوف يبعد عن المعاصي ، والمراقبة تؤديك إلى طريق الحقائق .

وقيل : المراقبة مراعاة القلب لملاحظة الحق مع كل خطرة وخطوة .

وقال الجريري : أمرنا هذا مبني على فصلين : أن تلزم نفسك المراقبة لله ، وأن يكون العلم على ظاهرك قائما .

وقال إبراهيم الخواص : المراقبة خلوص السر والعلانية لله عز وجل .

وقيل : أفضل ما يلزم الإنسان نفسه في هذه الطريق : المحاسبة والمراقبة ، وسياسة عمله بالعلم .

وقال أبو حفص ل أبي عثمان النيسابوري : إذا جلست للناس فكن واعظا لقلبك ونفسك . ولا يغرنك اجتماعهم عليك . فإنهم يراقبون ظاهرك . والله يراقب باطنك .

وأرباب الطريق مجمعون على أن مراقبة الله تعالى في الخواطر : سبب لحفظها في حركات الظواهر . فمن راقب الله في سره ، حفظه الله في حركاته في سره وعلانيته .

والمراقبة هي التعبد باسمه الرقيب ، الحفيظ ، العليم ، السميع ، البصير ، فمن عقل هذه الأسماء ، وتعبد بمقتضاها : حصلت له المراقبة . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية