مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل :

وطائفة ثانية تجعل هذا الكلام من شطحات القوم ورعوناتهم . وتحتج بأحوال الأنبياء والرسل والصديقين ، ودعائهم وسؤالهم ، والثناء عليهم بخوفهم من النار ، ورجائهم للجنة . كما قال تعالى في حق خواص عباده الذين عبدهم المشركون : إنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه - كما تقدم - وقال عن أنبيائه ورسله : ( وزكريا إذ نادى ربه ) - إلى أن قال - ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين ) . أي رغبا فيما عندنا ، ورهبا من عذابنا . والضمير في قوله : " إنهم " عائد على الأنبياء المذكورين في هذه السورة عند عامة المفسرين .

والرغب والرهب : رجاء الرحمة ، والخوف من النار عندهم أجمعين .

وذكر سبحانه عباده الذين هم خواص خلقه . وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم . وجعل منها : استعاذتهم به من النار ، فقال تعالى : ( والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما إنها ساءت مستقرا ومقاما ) . وأخبر عنهم : أنهم توسلوا إليه بإيمانهم أن ينجيهم من النار . فقال تعالى : ( الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار ) [ ص: 76 ] فجعلوا أعظم وسائلهم إليه : وسيلة الإيمان ، وأن ينجيهم من النار .

وأخبر تعالى عن سادات العارفين أولي الألباب : أنهم كانوا يسألونه جنته . ويتعوذون به من ناره . فقال تعالى : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) الآيات إلى آخرها ، ولا خلاف أن الموعود به على ألسنة رسله : هي الجنة التي سألوها .

وقال عن خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم : ( والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين ) إلى قوله : ( ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ) . فسأل الله الجنة ، واستعاذ به من النار . وهو الخزي يوم البعث .

وأخبرنا سبحانه عن الجنة : أنها كانت وعدا عليه مسئولا ؛ أي يسأله إياها عباده وأولياؤه .

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته : أن يسألوا له في وقت الإجابة - عقيب الأذان - أعلى منزلة في الجنة . وأخبر : أن من سألها له حلت عليه شفاعته .

[ ص: 77 ] وقال له سليم الأنصاري : أما إني أسأل الله الجنة ، وأستعيذ به من النار ، لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ ، فقال : أنا ومعاذ حولها ندندن .

وفي الصحيح - في حديث الملائكة السيارة الفضل عن كتاب الناس - إن الله تعالى يسألهم عن عباده - وهو أعلم تبارك وتعالى - فيقولون : أتيناك من عند عباد لك يهللونك ، ويكبرونك ، ويحمدونك ، ويمجدونك ، فيقول عز وجل : وهل رأوني ؟ فيقولون : لا يا رب . ما رأوك . فيقول عز وجل : كيف لو رأوني ؟ فيقولون : لو رأوك لكانوا لك أشد تمجيدا . قالوا : يا رب . ويسألونك جنتك . فيقول : هل رأوها ؟ فيقولون : لا وعزتك ما رأوها . فيقول : فكيف لو رأوها ؟ فيقولون : لو رأوها لكانوا لها أشد طلبا . قالوا : ويستعيذون بك من النار ، فيقول عز وجل : وهل رأوها ؟ فيقولون : لا وعزتك ما رأوها . فيقول : فكيف لو رأوها ؟ فيقولون : لو رأوها لكانوا أشد منها هربا . فيقول : إني أشهدكم أني قد غفرت لهم ، وأعطيتهم ما سألوا ، وأعذتهم مما استعاذوا .

والقرآن والسنة مملوءان من الثناء على عباده وأوليائه بسؤال الجنة ورجائها ، والاستعاذة من النار ، والخوف منها .

قالوا : وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : استعيذوا بالله من النار . وقال لمن سأله مرافقته في الجنة : أعني على نفسك بكثرة السجود .

قالوا : والعمل على طلب الجنة والنجاة من النار مقصود الشارع من أمته ليكونا دائما على ذكر منهما فلا ينسونهما . ولأن الإيمان بهما شرط في النجاة ، والعمل على حصول الجنة والنجاة من النار هو محض الإيمان .

قالوا : وقد حض النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وأمته ، فوصفها وجلاها لهم ليخطبوها ، وقال : ألا مشمر للجنة ؟ فإنها - ورب الكعبة - نور يتلألأ ، وريحانة تهتز ، وزوجة حسناء ، وفاكهة نضيجة ، وقصر مشيد ، ونهر مطرد - الحديث - فقال الصحابة : يا رسول الله ، [ ص: 78 ] نحن المشمرون لها . فقال : قولوا : إن شاء الله .

ولو ذهبنا نذكر ما في السنة من قوله : 32 من عمل كذا وكذا أدخله الله الجنة تحريضا على عمله لها ، وأن تكون هي الباعثة على العلم : لطال ذلك جدا . وذلك في جميع الأعمال .

قالوا : فكيف يكون العمل لأجل الثواب وخوف العقاب معلولا ؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يحرض عليه ، ويقول من فعل كذا فتحت له أبواب الجنة الثمانية و من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة . و من كسا مسلما على عري كساه الله من حلل الجنة و عائد المريض في خرفة الجنة ، والحديث مملوء من ذلك ؟ أفتراه يحرض [ ص: 79 ] المؤمنين على مطلب معلول ناقص ، ويدع المطلب العالي البريء من شوائب العلل لا يحرضهم عليه ؟

قالوا : وأيضا فالله سبحانه يحب من عباده أن يسألوه جنته ، ويستعيذوا به من ناره ، فإنه يحب أن يسأل . ومن لم يسأله يغضب عليه . وأعظم ما سئل الجنة وأعظم ما استعيذ به من النار .

فالعمل لطلب الجنة محبوب للرب ، مرضي له . وطلبها عبودية للرب . والقيام بعبوديته كلها أولى من تعطيل بعضها .

قالوا : وإذا خلا القلب من ملاحظة الجنة والنار ، ورجاء هذه والهرب من هذه فترت عزائمه ، وضعفت همته ، ووهى باعثه ، وكلما كان أشد طلبا للجنة ، وعملا لها كان الباعث له أقوى ، والهمة أشد ، والسعي أتم . وهذا أمر معلوم بالذوق .

وقالوا : ولو لم يكن هذا مطلوبا للشارع لما وصف الجنة للعباد ، وزينها لهم ، وعرضها عليهم . وأخبرهم عن تفاصيل ما تصل إليه عقولهم منها ، وما عداه أخبرهم به مجملا . كل هذا تشويقا لهم إليها ، وحثا لهم على السعي لها سعيها .

قالوا : وقد قال الله عز وجل : ( والله يدعو إلى دار السلام ) . وهذا حث على إجابة هذه الدعوة ، والمبادرة إليها ، والمسارعة في الإجابة .

والتحقيق أن يقال : الجنة ليست اسما لمجرد الأشجار والفواكه ، والطعام والشراب ، والحور العين ، والأنهار والقصور . وأكثر الناس يغلطون في مسمى الجنة . فإن الجنة اسم لدار النعيم المطلق الكامل . ومن أعظم نعيم الجنة التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم ، وسماع كلامه ، وقرة العين بالقرب منه وبرضوانه . فلا نسبة للذة ما فيها من المأكول والمشروب والملبوس والصور ، إلى هذه اللذة أبدا . فأيسر يسير من رضوانه أكبر من الجنان وما فيها من ذلك . كما قال تعالى : ( ورضوان من الله أكبر ) . وأتى به منكرا في سياق الإثبات ؛ أي : أي شيء كان من رضاه عن عبده : فهو أكبر من الجنة .


قليل منك يقنعني ولكن قليلك لا يقال له قليل

وفي الحديث الصحيح - حديث الرؤية - فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم [ ص: 80 ] من النظر إلى وجهه ، وفي حديث آخر أنه سبحانه إذا تجلى لهم ، ورأوا وجهه عيانا نسوا ما هم فيه من النعيم ، وذهلوا عنه ، ولم يلتفتوا إليه . ولا ريب أن الأمر هكذا . وهو أجل مما يخطر بالبال ، أو يدور في الخيال . ولا سيما عند فوز المحبين هناك بمعية المحب . فإن المرء مع من أحب . ولا تخصيص في هذا الحكم . بل هو ثابت شاهدا وغائبا .

فأي نعيم ، وأي لذة ، وأي قرة عين ، وأي فوز يداني نعيم تلك المعية ولذتها ، وقرة العين بها ؟

وهل فوق نعيم قرة العين بمعية المحبوب ، الذي لا شيء أجل منه ، ولا أكمل ولا أجمل : قرة عين البتة ؟

وهذا - والله - هو العلم الذي شمر إليه المحبون ، واللواء الذي أمه العارفون . وهو روح مسمى الجنة وحياتها . وبه طابت الجنة ، وعليه قامت .

فكيف يقال : لا يعبد الله طلبا لجنته ، ولا خوفا من ناره ؟

وكذلك النار أعاذنا الله منها ، فإن لأربابها من عذاب الحجاب عن الله وإهانته ، وغضبه وسخطه ، والبعد عنه : أعظم من التهاب النار في أجسامهم وأرواحهم ، بل التهاب هذه النار في قلوبهم هو الذي أوجب التهابها في أبدانهم . ومنها سرت إليها .

فمطلوب الأنبياء والمرسلين والصديقين ، والشهداء والصالحين هو الجنة . ومهربهم من النار .

والله المستعان ، وعليه التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .

ومقصد القوم أن العبد يعبد ربه بحق العبودية . والعبد إذا طلب من سيده أجرة [ ص: 81 ] على خدمته له كان أحمق ، ساقطا من عين سيده ، إن لم يستوجب عقوبته . إذ عبوديته تقتضي خدمته له . وإنما يخدم بالأجرة من لا عبودية للمخدوم عليه . إما أن يكون حرا في نفسه ، أو عبدا لغيره . وأما من الخلق عبيده حقا ، وملكه على الحقيقة ، ليس فيهم حر ولا عبد لغيره فخدمتهم له بحق العبودية ، فاقتضاؤهم للأجرة خروج عن محض العبودية .

وهذا لا ينكر على الإطلاق ، ولا يقبل على الإطلاق . وهو موضع تفصيل وتمييز .

وقد تقدم في أول الحديث ذكر طرق الخلق في هذا الموضع . وبينا طريق أهل الاستقامة .

فالناس في هذا المقام أربعة أقسام :

أحدهم : من لا يريد ربه ولا يريد ثوابه . فهؤلاء أعداؤه حقا . وهم أهل العذاب الدائم . وعدم إرادتهم لثوابه إما لعدم تصديقهم به ، وإما لإيثار العاجل عليه ، ولو كان فيه سخطه .

والقسم الثاني : من يريده ويريد ثوابه ، وهؤلاء خواص خلقه . قال الله تعالى : ( وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما ) فهذا خطابه لخير نساء العالمين ، أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم . وقال الله تعالى : ( ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ) ، فأخبر أن السعي المشكور : سعي من أراد الآخرة . وأصرح منها قوله : لخواص أوليائه - وهم أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم - في يوم أحد : ( منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) فقسمهم إلى هذين القسمين اللذين لا ثالث لهما .

وقد غلط من قال : فأين من يريد الله ؟ فإن إرادة الآخرة عبارة عن إرادة الله تعالى وثوابه . فإرادة الثواب لا تنافي إرادة الله .

والقسم الثالث : من يريد من الله ، ولا يريد الله . فهذا ناقص غاية النقص . وهو حال الجاهل بربه ، الذي سمع : أن ثم جنة ونارا . فليس في قلبه غير إرادة نعيم الجنة المخلوق ، لا يخطر بباله سواه البتة . بل هذا حال أكثر المتكلمين ، المنكرين رؤية الله [ ص: 82 ] تعالى ، والتلذذ بالنظر إلى وجهه في الآخرة ، وسماع كلامه وحبه . والمنكرين على من يزعم أنه يحب الله . وهم عبيد الأجرة المحضة . فهؤلاء لا يريدون الله تعالى .

ومنهم من يصرح بأن إرادة الله محال .

قالوا : لأن الإرادة إنما تتعلق بالحادث . فالقديم لا يراد . فهؤلاء منكرون لإرادة الله غاية الإنكار . وأعلى الإرادة عندهم : إرادة الأكل والشرب ، والنكاح واللباس في الجنة ، وتوابع ذلك . فهؤلاء في شق ، وأولئك - الذين قالوا : لم نعبده طلبا لجنته ، ولا هربا من ناره - في شق . وهما طرفا نقيض . بينهما أعظم من بعد المشرقين . وهؤلاء من أكثف الناس حجابا ، وأغلظهم طباعا ، وأقساهم قلوبا ، وأبعدهم عن روح المحبة والتأله ، ونعيم الأرواح والقلوب . وهم يكفرون أصحاب المحبة والشوق إلى الله والتلذذ بحبه ، والتصديق بلذة النظر إلى وجهه ، وسماع كلامه منه بلا واسطة .

وأولئك لا يعدونهم من البشر إلا بالصورة . ومرتبتهم عندهم قريبة من مرتبة الجماد والحيوان البهيم . وهم عندهم في حجاب كثيف عن معرفة نفوسهم وكمالها ، ومعرفة معبودهم وسر عبوديته .

وحال الطائفتين عجب لمن اطلع عليه .

والقسم الرابع - وهو محال - : أن يريد الله ، ولا يريد منه . فهذا هو الذي يزعم هؤلاء أنه مطلوبهم ، وأن من لم يصل إليه ففي سيره علة ، وأن العارف ينتهي إلى هذا المقام . وهو أن يكون الله مراده ، ولا يريد منه شيئا . كما يحكى عن أبي يزيد أنه قال : قيل لي : ما تريد ؟ فقلت : أريد أن لا أريد .

وهذا في التحقيق عين المحال الممتنع : عقلا وفطرة ، وحسا وشرعا . فإن الإرادة من لوازم الحي . وإنما يعرض له التجرد عنها بالغيبة عن عقله وحسه ؛ كالسكر والإغماء والنوم . فنحن لا ننكر التجريد عن إرادة ما سواه من المخلوقات التي تزاحم إرادتها إرادته . أفليس صاحب هذا المقام مريدا لقربه ورضاه ، ودوام مراقبته ، والحضور معه ؟ وأي إرادة فوق هذه ؟

نعم . قد زهد في مراد لمراد هو أجل منه وأعلى . فلم يخرج عن الإرادة . وإنما انتقل من إرادة إلى إرادة ، ومن مراد إلى مراد . وأما خلوه عن صفة الإرادة بالكلية ، مع حضور عقله وحسه فمحال .

وإن حاكمنا في ذلك محاكم إلى ذوق مصطلم مأخوذ عن نفسه ، فان عن عوالمها : لم [ ص: 83 ] ننكر ذلك ، لكن هذه حال عارضة غير دائمة ، ولا هي غاية مطلوبة للسالكين ، ولا مقدورة للبشر ، ولا مأمور بها ، ولا هي أعلى المقامات . فيؤمر باكتساب أسبابها . فهذا فصل الخطاب في هذا الموضع . والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية