مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل منزلة الإخلاص

ومن منازل : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) منزلة الإخلاص

قال الله تعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) . وقال : ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص ) . وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه ) . وقال له : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) . وقال : ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) . قال الفضيل بن عياض : هو أخلصه وأصوبه . قالوا : يا أبا علي ، ما أخلصه وأصوبه ؟ فقال : إن العمل إذا كان خالصا ، ولم يكن صوابا . لم يقبل . وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا : لم [ ص: 89 ] يقبل . حتى يكون خالصا صوابا ، والخالص : أن يكون لله ، والصواب أن يكون على السنة . ثم قرأ قوله تعالى : ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) . وقال تعالى : ( ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن ) . فإسلام الوجه : إخلاص القصد والعمل لله . والإحسان فيه : متابعة رسوله صلى الله عليه وسلم وسنته . وقال تعالى : ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ) . وهي الأعمال التي كانت على غير السنة . أو أريد بها غير وجه الله . قال النبي صلى الله عليه وسلم ل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : إنك لن تخلف ، فتعمل عملا تبتغي به وجه الله تعالى إلا ازددت به خيرا ، ودرجة ورفعة . وفي الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم : إخلاص العمل لله ، ومناصحة ولاة الأمر ، ولزوم جماعة المسلمين . فإن دعوتهم تحيط من ورائهم ؛ أي لا يبقى فيه غل ، ولا يحمل [ ص: 90 ] الغل مع هذه الثلاثة . بل تنفي عنه غله . وتنقيه منه . وتخرجه عنه . فإن القلب يغل على الشرك أعظم غل . وكذلك يغل على الغش . وعلى خروجه عن جماعة المسلمين بالبدعة والضلالة . فهذه الثلاثة تملؤه غلا ودغلا . ودواء هذا الغل ، واستخراج أخلاطه بتجريد الإخلاص والنصح ، ومتابعة السنة .

وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل رياء ، ويقاتل شجاعة . ويقاتل حمية : أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله .

وأخبر عن أول ثلاثة تسعر بهم النار : قارئ القرآن ، والمجاهد ، والمتصدق بماله ، الذين فعلوا ذلك ليقال : فلان قارئ ، فلان شجاع ، فلان متصدق ، ولم تكن أعمالهم خالصة لله .

وفي الحديث الصحيح الإلهي يقول الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك . من عمل عملا أشرك فيه غيري فهو للذي أشرك به . وأنا منه بريء .

وفي أثر آخر : يقول له يوم القيامة اذهب فخذ أجرك ممن عملت له . لا أجر لك عندنا .

[ ص: 91 ] وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ، ولا إلى صوركم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم . وقال تعالى : ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) .

وفي أثر مروي إلهي : الإخلاص سر من سري ، استودعته قلب من أحببته من عبادي .

وقد تنوعت عبارتهم في الإخلاص والصدق ، والقصد واحد .

فقيل : هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة .

وقيل : تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين .

وقيل : التوقي من ملاحظة الخلق حتى عن نفسك . والصدق التنقي من مطالعة النفس . فالمخلص لا رياء له ، والصادق لا إعجاب له . ولا يتم الإخلاص إلا بالصدق ، ولا الصدق إلا بالإخلاص . ولا يتمان إلا بالصبر .

وقيل : من شهد في إخلاصه الإخلاص ، احتاج إخلاصه إلى إخلاص . فنقصان كل مخلص في إخلاصه : بقدر رؤية إخلاصه . فإذا سقط عن نفسه رؤية الإخلاص ، صار مخلصا مخلصا .

وقيل : الإخلاص استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن . والرياء : أن يكون ظاهره خيرا من باطنه . والصدق في الإخلاص : أن يكون باطنه أعمر من ظاهره .

[ ص: 92 ] وقيل : الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق . ومن تزين للناس بما ليس فيه سقط من عين الله .

ومن كلام الفضيل : ترك العمل من أجل الناس : رياء . والعمل من أجل الناس : شرك . والإخلاص : أن يعافيك الله منهما .

قال الجنيد : الإخلاص سر بين الله وبين العبد . لا يعلمه ملك فيكتبه ، ولا شيطان فيفسده . ولا هوى فيميله .

وقيل لسهل : أي شيء أشد على النفس ؟ فقال : الإخلاص ؛ لأنه ليس لها فيه نصيب .

وقال بعضهم : الإخلاص أن لا تطلب على عملك شاهدا غير الله ، ولا مجازيا سواه .

وقال مكحول : ما أخلص عبد قط أربعين يوما إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه .

وقال يوسف بن الحسين : أعز شيء في الدنيا : الإخلاص . وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي . فكأنه ينبت على لون آخر .

وقال أبو سليمان الداراني : إذا أخلص العبد انقطعت عنه كثرة الوساوس والرياء .

[ ص: 93 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية