مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
قال : وهو على ثلاث درجات . الأولى : تهذيب الخدمة ؛ أن لا يخالجها جهالة . ولا يشوبها عادة ، ولا يقف عندها همة .

أي : تخليص العبودية ، وتصفيتها من هذه الأنواع الثلاثة . وهي : مخالجة الجهالة ، وشوب العادة ، ووقوف همة الطالب عندها .

النوع الأول : مخالطة الجهال . فإن الجهالة متى خالطت العبودية ، أوردها العبد غير موردها . ووضعها في غير موضعها ، وفعلها في غير مستحقها ، وفعل أفعالا يعتقد أنها صلاح . وهي إفساد لخدمته وعبوديته ، بأن يتحرك في موضع السكون ، أو يسكن في موضع التحرك . أو يفرق في موضع جمع ، أو يجمع في موضع فرق ، أو يطير في موضع سفوف ، أو يسف في موضع طيران ، أو يقدم في موضع إحجام ، أو يحجم في موضع إقدام ، أو يتقدم في موضع وقوف ، أو يقف في موضع تقدم . ونحو ذلك من الحركات ، التي هي في حق الخدمة كحركات الثقيل البغيض في حقوق الناس .

فالخدمة ما لم يصحبها علم ثان بآدابها وحقوقها ، غير العلم بها نفسها ، كانت في مظنة أن تبعد صاحبها ، وإن كان مراده بها التقرب . ولا يلزم حبوط ثوابها وأجرها فهي إن لم تبعده عن الأجر والثواب أبعدته عن المنزلة والقربة . ولا تنفصل مسائل هذه الجملة إلا بمعرفة خاصة بالله وأمره ، ومحبة تامة له ، ومعرفة بالنفس وما منها .

[ ص: 99 ] النوع الثاني : شوب العادة : وهو أن يمازج العبودية حكم من أحكام عوائد النفس تكون منفذة لها ، معينة عليها ، وصاحبها يعتقدها قربة وطاعة ، كمن اعتاد الصوم - مثلا - وتمرن عليه . فألفته النفس ، وصار لها عادة تتقاضاها أشد اقتضاء . فيظن أن هذا التقاضي محض العبودية . وإنما هو تقاضي العادة .

وعلامة هذا أنه إذا عرض عليها طاعة دون ذلك ، وأيسر منه ، وأتم مصلحة لم تؤثرها إيثارها لما اعتادته وألفته . كما حكي عن بعض الصالحين من الصوفية قال : حججت كذا وكذا حجة على التجريد ، فبان لي أن جميع ذلك كان مشوبا بحظي . وذلك أن والدتي سألتني أن أستقي لها جرعة ماء . فثقل ذلك على نفسي . فعلمت أن مطاوعة نفسي في الحجات كان بحظ نفسي وإرادتها . إذ لو كانت نفسي فانية لم يصعب عليها ما هو حق في الشرع .

النوع الثالث : وقوف همته عند الخدمة . وذلك علامة ضعفها وقصورها . فإن العبد المحض لا تقف همته عند الخدمة . بل همته أعلى من ذلك ؛ إذ هي طالبة لرضا مخدومه . فهو دائما مستصغر خدمته له . ليس واقفا عندها . والقناعة تحمد من صاحبها إلا في هذا الموضع . فإنها عين الحرمان . فالمحب لا يقنع بشيء دون محبوبه . فوقوف همة العبد مع خدمته وأجرتها : سقوط فيها وحرمان .

التالي السابق


الخدمات العلمية