مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل المرتبة العاشرة من مراتب الهداية : الرؤيا الصادقة

وهي من أجزاء النبوة كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة .

[ ص: 74 ] وقد قيل في سبب هذا التخصيص المذكور : إن أول مبتدأ الوحي كان هو الرؤيا الصادقة ، وذلك نصف سنة ، ثم انتقل إلى وحي اليقظة مدة ثلاث وعشرين سنة ، من حين بعث إلى أن توفي ، صلوات الله وسلامه عليه ، فنسبة مدة الوحي في المنام من ذلك جزء من ستة وأربعين جزءا ، وهذا حسن ، لولا ما جاء في الرواية الأخرى الصحيحة " إنها جزء من سبعين جزءا " .

وقد قيل في الجمع بينهما : إن ذلك بحسب حال الرائي ، فإن رؤيا الصديقين من ستة وأربعين ، ورؤيا عموم المؤمنين الصادقة من سبعين ، والله أعلم .

والرؤيا مبدأ الوحي ، وصدقها بحسب صدق الرائي ، وأصدق الناس رؤيا أصدقهم حديثا ، وهي عند اقتراب الزمان لا تكاد تخطئ ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك لبعد العهد بالنبوة وآثارها ، فيتعوض المؤمنون بالرؤيا ، وأما في زمن قوة نور النبوة ففي ظهور نورها وقوته ما يغني عن الرؤيا .

ونظير هذا الكرامات التي ظهرت بعد عصر الصحابة ، ولم تظهر عليهم ، لاستغنائهم عنها بقوة إيمانهم ، واحتياج من بعدهم إليها لضعف إيمانهم ، وقد نص أحمد [ ص: 75 ] على هذا المعنى ، وقال عبادة بن الصامت : رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في المنام ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لم يبق من النبوة إلا المبشرات ، قيل : وما المبشرات يا رسول الله ؟ قال : الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له وإذا تواطأت رؤيا المسلمين لم تكذب ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما أروا ليلة القدر في العشر الأواخر ، قال أرى رؤياكم قد تواطأت في العشر الأواخر ، فمن كان منكم متحريها فليتحرها في العشر الأواخر من رمضان .

والرؤيا كالكشف ، منها رحماني ، ومنها نفساني ، ومنها شيطاني ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم الرؤيا ثلاثة : رؤيا من الله ، ورؤيا تحزين من الشيطان ، ورؤيا مما يحدث به الرجل نفسه في اليقظة ، فيراه في المنام .

والذي هو من أسباب الهداية : هو الرؤيا التي من الله خاصة .

ورؤيا الأنبياء وحي ، فإنها معصومة من الشيطان ، وهذا باتفاق الأمة ، ولهذا أقدم الخليل على ذبح ابنه إسماعيل عليهما السلام بالرؤيا .

وأما رؤيا غيرهم فتعرض على الوحي الصريح ، فإن وافقته وإلا لم يعمل بها .

فإن قيل : فما تقولون إذا كانت رؤيا صادقة ، أو تواطأت ؟ .

[ ص: 76 ] قلنا : متى كانت كذلك استحال مخالفتها للوحي ، بل لا تكون إلا مطابقة له ، منبهة عليه ، أو منبهة على اندراج قضية خاصة في حكمه ، لم يعرف الرائي اندراجها فيه ، فيتنبه بالرؤيا على ذلك ، ومن أراد أن تصدق رؤياه فليتحر الصدق وأكل الحلال ، والمحافظة على الأمر والنهي ، ولينم على طهارة كاملة مستقبل القبلة ، ويذكر الله حتى تغلبه عيناه ، فإن رؤياه لا تكاد تكذب البتة .

وأصدق الرؤيا : رؤيا الأسحار ، فإنه وقت النزول الإلهي ، واقتراب الرحمة والمغفرة ، وسكون الشياطين ، وعكسه رؤيا العتمة ، عند انتشار الشياطين والأرواح الشيطانية ، وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه : رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في المنام .

وللرؤيا ملك موكل بها ، يريها العبد في أمثال تناسبه وتشاكله ، فيضربها لكل أحد بحسبه ، وقال مالك : " الرؤيا من الوحي وحي " ، وزجر عن تفسيرها بلا علم ، وقال : أتتلاعب بوحي الله ؟

ولذكر الرؤيا وأحكامها وتفاصيلها وطرق تأويلها مظان مخصوصة بها ، يخرجنا ذكرها عن المقصود ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية