مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

فإذا وضع قدمه في هذه الدرجة . انتقل منها إلى درجة الرضا .

وهي ثمرة التوكل . ومن فسر التوكل بها فإنما فسره بأجل ثمراته ، وأعظم فوائده ، فإنه إذا توكل حق التوكل رضي بما يفعله وكيله .

وكان شيخنا - رضي الله عنه - يقول : المقدور يكتنفه أمران : التوكل قبله ، والرضا بعده ، فمن توكل على الله قبل الفعل . ورضي بالمقضي له بعد الفعل فقد قام بالعبودية . أو معنى هذا .

قلت : وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستخارة : اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم . فهذا توكل وتفويض . ثم قال : فإنك تعلم ولا أعلم ، وتقدر ولا أقدر ، وأنت علام الغيوب . فهذا تبرؤ إلى الله من [ ص: 123 ] العلم والحول والقوة ، وتوسل إليه سبحانه بصفاته التي هي أحب ما توسل إليه بها المتوسلون . ثم سأل ربه أن يقضي له ذلك الأمر إن كان فيه مصلحته ، عاجلا أو آجلا ، وأن يصرفه عنه إن كان فيه مضرته ، عاجلا أو آجلا . فهذا هو حاجته التي سألها . فلم يبق عليه إلا الرضا بما يقضيه له . فقال : واقدر لي الخير حيث كان ، ثم رضني به .

فقد اشتمل هذا الدعاء على هذه المعارف الإلهية ، والحقائق الإيمانية ، التي من جملتها التوكل والتفويض ، قبل وقوع المقدور ، والرضا بعده . وهو ثمرة التوكل . والتفويض علامة صحته ، فإن لم يرض بما قضي له ، فتفويضه معلول فاسد .

فباستكمال هذه الدرجات الثماني يستكمل العبد مقام التوكل ، وتثبت قدمه فيه . وهذا معنى قول بشر الحافي : يقول أحدهم : توكلت على الله . يكذب على الله . لو توكل على الله لرضي بما يفعله الله به .

وقول يحيى بن معاذ وقد سئل : متى يكون الرجل متوكلا ؟ فقال : إذا رضي بالله وكيلا .

التالي السابق


الخدمات العلمية