مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

وكثيرا ما يشتبه في هذا الباب المحمود الكامل بالمذموم الناقص . فيشتبه التفويض بالإضاعة . فيضيع العبد حظه . ظنا منه أن ذلك تفويض وتوكل . وإنما هو تضييع لا تفويض . فالتضييع في حق الله . والتفويض في حقك .

ومنه اشتباه التوكل بالراحة ، وإلقاء حمل الكل . فيظن صاحبه أنه متوكل . وإنما هو عامل على عدم الراحة .

وعلامة ذلك أن المتوكل مجتهد في الأسباب المأمور بها غاية الاجتهاد ، مستريح من غيرها لتعبه بها . والعامل على الراحة آخذ من الأمر مقدار ما تندفع به الضرورة ، وتسقط به عنه مطالبة الشرع . فهذا لون ، وهذا لون .

ومنه اشتباه خلع الأسباب بتعطيلها . فخلعها توحيد ، وتعطيلها إلحاد وزندقة . فخلعها عدم اعتماد القلب عليها ، ووثوقه وركونه إليها مع قيامه بها . وتعطيلها إلغاؤها عن الجوارح .

ومنه : اشتباه الثقة بالله بالغرور والعجز ، والفرق بينهما : أن الواثق بالله قد فعل ما أمره الله به ، ووثق بالله في طلوع ثمرته ، وتنميتها وتزكيتها ، كغارس الشجرة ، وباذر [ ص: 124 ] الأرض . والمغتر العاجز قد فرط فيما أمر به ، وزعم أنه واثق بالله . والثقة إنما تصح بعد بذل المجهود .

ومنه : اشتباه الطمأنينة إلى الله والسكون إليه ، بالطمأنينة إلى المعلوم ، وسكون القلب إليه . ولا يميز بينهما إلا صاحب البصيرة . كما يذكر عن أبي سليمان الداراني : أنه رأى رجلا بمكة لا يتناول شيئا إلا شربة من ماء زمزم . فمضى عليه أيام . فقال له أبو سليمان يوما : أرأيت لو غارت زمزم ، أي شيء كنت تشرب ؟ فقام وقبل رأسه ، وقال : جزاك الله خيرا ، حيث أرشدتني . فإني كنت أعبد زمزم منذ أيام . ثم تركه ومضى .

وأكثر المتوكلين سكونهم وطمأنينتهم إلى المعلوم . وهم يظنون أنه إلى الله ، وعلامة ذلك أنه متى انقطع معلوم أحدهم حضره همه وبثه وخوفه . فعلم أن طمأنينته وسكونه لم يكن إلى الله .

ومنه : اشتباه الرضا عن الله بكل ما يفعل بعبده - مما يحبه ويكرهه - بالعزم على ذلك ، وحديث النفس به . وذلك شيء والحقيقة شيء آخر . كما يحكى عن أبي سليمان أنه قال : أرجو أن أكون أعطيت طرفا من الرضا ، لو أدخلني النار لكنت بذلك راضيا .

فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : هذا عزم منه على الرضا وحديث نفس به . ولو أدخله النار لم يكن من ذلك شيء . وفرق بين العزم على الشيء وبين حقيقته .

ومنه اشتباه علم التوكل بحال التوكل . فكثير من الناس يعرف التوكل وحقيقته وتفاصيله . فيظن أنه متوكل . وليس من أهل التوكل . فحال التوكل أمر آخر من وراء العلم به . وهذا كمعرفة المحبة والعلم بها وأسبابها ودواعيها . وحال المحب العاشق وراء ذلك . وكمعرفة علم الخوف ، وحال الخائف وراء ذلك . وهو شبيه بمعرفة المريض ماهية الصحة وحقيقتها وحاله بخلافها .

فهذا الباب يكثر اشتباه الدعاوي فيه بالحقائق ، والعوارض بالمطالب ، والآفات القاطعة بالأسباب الموصلة . والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .

التالي السابق


الخدمات العلمية