فصل منزلة التفويض  
ومن منازل : (  
إياك نعبد وإياك نستعين     )  
منزلة التفويض     .  
قال صاحب " المنازل " :  
وهو ألطف إشارة ، وأوسع معنى من التوكل ، فإن التوكل بعد وقوع السبب ، والتفويض قبل وقوعه وبعده . وهو عين الاستسلام . والتوكل شعبة منه .  
يعني أن المفوض يتبرأ من الحول والقوة ، ويفوض الأمر إلى صاحبه ، من غير أن يقيمه مقام نفسه في مصالحه . بخلاف التوكل . فإن الوكالة تقتضي أن يقوم الوكيل مقام الموكل .  
فالتفويض : براءة وخروج من الحول والقوة ، وتسليم الأمر كله إلى مالكه .  
فيقال : وكذلك التوكل أيضا . وما قدحتم به في التوكل يرد عليكم نظيره في التفويض سواء . فإنك كيف تفوض شيئا لا تملكه البتة إلى مالكه ؟ وهل يصح أن يفوض واحد من آحاد الرعية الملك إلى ملك زمانه ؟   
[ ص: 138 ] فالعلة إذن في التفويض أعظم منها في التوكل . بل لو قال القائل : التوكل فوق التفويض وأجل منه وأرفع ، لكان مصيبا . ولهذا كان القرآن مملوءا به أمرا ، وإخبارا عن خاصة الله وأوليائه ، وصفوة المؤمنين ، بأن حالهم التوكل . وأمر الله به رسوله في أربعة مواضع من كتابه ، وسماه المتوكل كما في صحيح  
 nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري  عن  
عبد الله بن عمر  رضي الله عنهما قال : قرأت في التوراة صفة النبي صلى الله عليه وسلم :  
محمد   رسول الله ، سميته المتوكل ، ليس بفظ ، ولا غليظ ، ولا سخاب بالأسواق     .  
وأخبر عن رسله بأن حالهم كان التوكل . وبه انتصروا على قومهم . وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب أنهم أهل مقام التوكل .  
ولم يجئ التفويض في القرآن إلا فيما حكاه عن مؤمن آل  
فرعون  من قوله : (  
وأفوض أمري إلى الله     ) . وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يتخذه وكيلا . فقال : (  
رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا     ) .  
وهذا يبطل قول من قال من جهلة القوم : إن توكيل الرب فيه جسارة على الباري ؛ لأن التوكل يقتضي إقامة الوكيل مقام الموكل . وذلك عين الجسارة .  
قال : ولولا أن الله أباح ذلك وندب إليه : لما جاز للعبد تعاطيه .  
وهذا من أعظم الجهل . فإن اتخاذه وكيلا هو محض العبودية ، وخالص التوحيد ،      
[ ص: 139 ] إذا قام به صاحبه حقيقة .  
ولله در سيد القوم ، وشيخ الطائفة  
 nindex.php?page=showalam&ids=16065سهل بن عبد الله التستري  ؛ إذ يقول : العلم كله باب من التعبد . والتعبد كله باب من الورع . والورع كله باب من الزهد ، والزهد كله باب من التوكل .  
فالذي نذهب إليه : أن  
التوكل أوسع من التفويض  ، وأعلى وأرفع .