مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل منزلة التفويض

ومن منازل : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) منزلة التفويض .

قال صاحب " المنازل " :

وهو ألطف إشارة ، وأوسع معنى من التوكل ، فإن التوكل بعد وقوع السبب ، والتفويض قبل وقوعه وبعده . وهو عين الاستسلام . والتوكل شعبة منه .

يعني أن المفوض يتبرأ من الحول والقوة ، ويفوض الأمر إلى صاحبه ، من غير أن يقيمه مقام نفسه في مصالحه . بخلاف التوكل . فإن الوكالة تقتضي أن يقوم الوكيل مقام الموكل .

فالتفويض : براءة وخروج من الحول والقوة ، وتسليم الأمر كله إلى مالكه .

فيقال : وكذلك التوكل أيضا . وما قدحتم به في التوكل يرد عليكم نظيره في التفويض سواء . فإنك كيف تفوض شيئا لا تملكه البتة إلى مالكه ؟ وهل يصح أن يفوض واحد من آحاد الرعية الملك إلى ملك زمانه ؟

[ ص: 138 ] فالعلة إذن في التفويض أعظم منها في التوكل . بل لو قال القائل : التوكل فوق التفويض وأجل منه وأرفع ، لكان مصيبا . ولهذا كان القرآن مملوءا به أمرا ، وإخبارا عن خاصة الله وأوليائه ، وصفوة المؤمنين ، بأن حالهم التوكل . وأمر الله به رسوله في أربعة مواضع من كتابه ، وسماه المتوكل كما في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قرأت في التوراة صفة النبي صلى الله عليه وسلم : محمد رسول الله ، سميته المتوكل ، ليس بفظ ، ولا غليظ ، ولا سخاب بالأسواق .

وأخبر عن رسله بأن حالهم كان التوكل . وبه انتصروا على قومهم . وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب أنهم أهل مقام التوكل .

ولم يجئ التفويض في القرآن إلا فيما حكاه عن مؤمن آل فرعون من قوله : ( وأفوض أمري إلى الله ) . وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يتخذه وكيلا . فقال : ( رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ) .

وهذا يبطل قول من قال من جهلة القوم : إن توكيل الرب فيه جسارة على الباري ؛ لأن التوكل يقتضي إقامة الوكيل مقام الموكل . وذلك عين الجسارة .

قال : ولولا أن الله أباح ذلك وندب إليه : لما جاز للعبد تعاطيه .

وهذا من أعظم الجهل . فإن اتخاذه وكيلا هو محض العبودية ، وخالص التوحيد ، [ ص: 139 ] إذا قام به صاحبه حقيقة .

ولله در سيد القوم ، وشيخ الطائفة سهل بن عبد الله التستري ؛ إذ يقول : العلم كله باب من التعبد . والتعبد كله باب من الورع . والورع كله باب من الزهد ، والزهد كله باب من التوكل .

فالذي نذهب إليه : أن التوكل أوسع من التفويض ، وأعلى وأرفع .

التالي السابق


الخدمات العلمية