مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل منزلة الثقة بالله تعالى

ومن منازل : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) منزلة الثقة بالله تعالى .

قال صاحب " المنازل " :

الثقة : سواد عين التوكل . ونقطة دائرة التفويض . وسويداء قلب التسليم .

وصدر الباب بقوله تعالى لأم موسى : ( فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني ) . فإن فعلها هذا هو عين ثقتها بالله تعالى ، إذ لولا كمال ثقتها بربها لما ألقت بولدها وفلذة كبدها في تيار الماء ، تتلاعب به أمواجه ، وجرياته إلى حيث ينتهي أو يقف .

ومراده : أن الثقة خلاصة التوكل ولبه ، كما أن سواد العين : أشرف ما في العين .

وأشار بأنه نقطة دائرة التفويض إلى أن مدار التوكل عليه ، وهو في وسطه كحال النقطة من الدائرة . فإن النقطة هي المركز الذي عليه استدارة المحيط ، ونسبة جهات المحيط إليها نسبة واحدة ، وكل جزء من أجزاء المحيط مقابل لها . كذلك الثقة هي النقطة التي يدور عليها التفويض .

وكذلك قوله : سويداء قلب التسليم . فإن القلب أشرف ما فيه سويداؤه ، وهي [ ص: 143 ] المهجة التي تكون بها الحياة ، وهي في وسطه . فلو كان التفويض قلبا لكانت الثقة سويداءه . ولو كان عينا لكانت سوادها . ولو كان دائرة لكانت نقطتها .

وقد تقدم أن كثيرا من الناس يفسر التوكل بالثقة . ويجعله حقيقتها . ومنهم من يفسره بالتفويض . ومنهم من يفسره بالتسليم .

فعلمت أن مقام التوكل يجمع ذلك كله .

فكأن الثقة عند الشيخ هي روح ، والتوكل كالبدن الحامل لها ، ونسبتها إلى التوكل كنسبة الإحسان إلى الإيمان . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية