مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

قال : الدرجة الثالثة : الصبر في البلاء ، بملاحظة حسن الجزاء ، وانتظار روح الفرج . وتهوين البلية بعد أيادي المنن . وبذكر سوالف النعم .

[ ص: 166 ] هذه ثلاثة أشياء تبعث المتلبس بها على الصبر في البلاء .

إحداها : ملاحظة حسن الجزاء . وعلى حسب ملاحظته والوثوق به ومطالعته يخفف حمل البلاء ، لشهود العوض ، وهذا كما يخف على كل متحمل مشقة عظيمة حملها ، لما يلاحظه من لذة عاقبتها وظفره بها . ولولا ذلك لتعطلت مصالح الدنيا والآخرة . وما أقدم أحد على تحمل مشقة عاجلة إلا لثمرة مؤجلة ، فالنفس مولعة بحب العاجل . وإنما خاصة العقل : تلمح العواقب ، ومطالعة الغايات .

وأجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم . وأن من رافق الراحة فارق الراحة . وحصل على المشقة وقت الراحة في دار الراحة ، فإن قدر التعب تكون الراحة .


على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكريم الكرائم     ويكبر في عين الصغير صغيرها
وتصغر في عين العظيم العظائم

والقصد : أن ملاحظة حسن العاقبة تعين على الصبر فيما تتحمله باختيارك وغير اختيارك .

والثاني انتظار روح الفرج

يعني راحته ونسيمه ولذته . فإن انتظاره ومطالعته وترقبه يخفف حمل المشقة . ولا سيما عند قوة الرجاء . أو القطع بالفرج . فإنه يجد في حشو البلاء من روح الفرج ونسيمه وراحته : ما هو من خفي الألطاف ، وما هو فرج معجل . وبه - وبغيره - يفهم معنى اسمه اللطيف .

والثالث : تهوين البلية بأمرين .

أحدهما : أن يعد نعم الله عليه وأياديه عنده . فإذا عجز عن عدها ، وأيس من حصرها ، هان عليه ما هو فيه من البلاء ورآه - بالنسبة إلى أيادي الله ونعمه - كقطرة من بحر .

الثاني : تذكر سوالف النعم التي أنعم الله بها عليه . فهذا يتعلق بالماضي . وتعداد أيادي المنن : يتعلق بالمستقبل . وأحدهما في الدنيا . والثاني يوم الجزاء .

[ ص: 167 ] ويحكى عن امرأة من العابدات أنها عثرت . فانقطعت إصبعها . فضحكت . فقال لها بعض من معها : أتضحكين ، وقد انقطعت إصبعك ؟ فقالت : أخاطبك على قدر عقلك . حلاوة أجرها أنستني مرارة ذكرها . إشارة إلى أن عقله لا يحتمل ما فوق هذا المقام . من ملاحظة المبتلي . ومشاهدة حسن اختياره لها في ذلك البلاء ، وتلذذها بالشكر له ، والرضا عنه ، ومقابلة ما جاء من قبله بالحمد والشكر . كما قيل :


لئن ساءني أن نلتني بمساءة     فقد سرني أني خطرت ببالكا

التالي السابق


الخدمات العلمية