مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

قال : الدرجة الثانية : الرضا عن الله . وبهذا نطقت آيات التنزيل . وهو الرضا عنه في كل ما قضى وقدر . وهذا من أوائل مسالك أهل الخصوص .

الشيخ جعل هذه الدرجة أعلى من الدرجة التي قبلها .

ووجه قوله : أنه لا يدخل في الإسلام إلا بالدرجة الأولى . فإذا استقر قدمه عليها دخل في مقام الإسلام .

وأما هذه الدرجة : فمن معاملات القلوب . وهي لأهل الخصوص . وهي الرضا عنه في أحكامه وأقضيته .

وإنما كان من أول مسالك أهل الخصوص لأنه مقدمة للخروج عن النفس ، والذي هو طريق أهل الخصوص ، فمقدمته بداية سلوكهم . لأنه يتضمن خروج العبد عن حظوظه ، ووقوفه مع مراد الله عز وجل . لا مع مراد نفسه .

هذا تقرير كلامه . وفي جعله هذه الدرجة أعلى من التي قبلها نظر لا يخفى ، وهو نظير جعله الصبر بالله أعلى من الصبر لله .

والذي ينبغي : أن تكون الدرجة الأولى أعلى شأنا وأرفع قدرا . فإنها مختصة وهذه [ ص: 181 ] الدرجة مشتركة . فإن الرضا بالقضاء يصح من المؤمن والكافر . وغايته التسليم لقضاء الله وقدره . فأين هذا من الرضا به ربا وإلها ومعبودا ؟

وأيضا فالرضا به ربا فرض . بل هو من آكد الفروض باتفاق الأمة . فمن لم يرض به ربا ، لم يصح له إسلام ولا عمل ولا حال .

وأما الرضا بقضائه : فأكثر الناس على أنه مستحب . وليس بواجب . وقيل : بل هو واجب ، وهما قولان في مذهب أحمد .

فالفرق بين الدرجتين فرق ما بين الفرض والندب . وفي الحديث الإلهي الصحيح يقول الله عز وجل : ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه فدل على أن التقرب إليه سبحانه بأداء فرائضه أفضل وأعلى من التقرب إليه بالنوافل .

وأيضا : فإن الرضا به ربا يتضمن الرضا عنه ، ويستلزمه . فإن الرضا بربوبيته : هو رضا العبد بما يأمره به ، وينهاه عنه ، ويقسمه له ويقدره عليه ، ويعطيه إياه ، ويمنعه منه . فمتى لم يرض بذلك كله لم يكن قد رضي به ربا من جميع الوجوه . وإن كان راضيا به ربا من بعضها . فالرضا به ربا من كل وجه : يستلزم الرضا عنه ، ويتضمنه بلا ريب .

وأيضا : فالرضا به ربا متعلق بذاته ، وصفاته وأسمائه ، وربوبيته العامة والخاصة ، فهو الرضا به خالقا ومدبرا ، وآمرا وناهيا ، وملكا ، ومعطيا ومانعا ، وحكما ، ووكيلا ووليا ، وناصرا ومعينا ، وكافيا وحسيبا ورقيبا ، ومبتليا ومعافيا ، وقابضا وباسطا ، إلى غير ذلك من صفات ربوبيته .

وأما الرضا عنه : فهو رضا العبد بما يفعله به ، ويعطيه إياه ، ولهذا لم يجئ إلا في الثواب والجزاء . كقوله تعالى : ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فهذا برضاها عنه لما حصل لها من كرامته . كقوله تعالى : خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه .

والرضا به : أصل الرضا عنه ، والرضا عنه : ثمرة الرضا به .

وسر المسألة : أن الرضا به متعلق بأسمائه وصفاته . والرضا عنه : متعلق بثوابه وجزائه .

[ ص: 182 ] وأيضا : فإن النبي صلى الله عليه وسلم علق ذوق طعم الإيمان بمن رضي بالله ربا . ولم يعلقه بمن رضي عنه ، كما قال صلى الله عليه وسلم ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا . . فجعل الرضا به قرين الرضا بدينه ونبيه . وهذه الثلاثة هي أصول الإسلام ، التي لا يقوم إلا بها وعليها .

وأيضا : فالرضا به ربا يتضمن توحيده وعبادته ، والإنابة إليه ، والتوكل عليه ، وخوفه ورجاءه ومحبته ، والصبر له وبه . والشكر على نعمه : يتضمن رؤية كل ما منه نعمة وإحسانا ، وإن ساء عبده . فالرضا به يتضمن شهادة أن لا إله إلا الله والرضا بمحمد رسولا يتضمن شهادة أن محمدا رسول الله والرضا بالإسلام دينا : يتضمن التزام عبوديته ، وطاعته وطاعة رسوله . فجمعت هذه الثلاثة الدين كله .

وأيضا : فالرضا به ربا يتضمن اتخاذه معبودا دون ما سواه . واتخاذه وليا ومعبودا ، وإبطال عبادة كل ما سواه . وقد قال تعالى لرسوله أفغير الله أبتغي حكما وقال أغير الله أتخذ وليا وقال قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء . فهذا هو عين الرضا به ربا .

وأيضا : فإنه جعل حقيقة الرضا به ربا : أن يسخط عبادة ما دونه . فمتى سخط العبد عبادة ما سوى الله من الآلهة الباطلة ، حبا وخوفا ، ورجاء وتعظيما ، وإجلالا - فقد تحقق بالرضا به ربا ، الذي هو قطب رحى الإسلام .

وإنما كان قطب رحى الدين لأن جميع العقائد والأعمال ، والأحوال : إنما تنبني على توحيد الله عز وجل في العبادة ، وسخط عبادة ما سواه . فمن لم يكن له هذا القطب لم يكن له رحى تدور عليه . ومن حصل له هذا القطب ثبتت له الرحى . ودارت على ذلك القطب . فيخرج حينئذ من دائرة الشرك إلى دائرة الإسلام . فتدور رحى إسلامه وإيمانه على قطبها الثابت اللازم .

وأيضا : فإنه جعل حصول هذه الدرجة من الرضا موقوفا على كون المرضي به ربا - سبحانه - أحب إلى العبد من كل شيء ، وأولى الأشياء بالتعظيم ، وأحق الأشياء بالطاعة ، ومعلوم أن هذا يجمع قواعد العبودية ، وينظم فروعها وشعبها .

[ ص: 183 ] ولما كانت المحبة التامة ميل القلب بكليته إلى المحبوب : كان ذلك الميل حاملا على طاعته وتعظيمه . وكلما كان الميل أقوى : كانت الطاعة أتم ، والتعظيم أوفر . وهذا الميل يلازم الإيمان ، بل هو روح الإيمان ولبه . فأي شيء يكون أعلى من أمر يتضمن أن يكون الله سبحانه أحب الأشياء إلى العبد ، وأولى الأشياء بالتعظيم ، وأحق الأشياء بالطاعة ؟

وبهذا يجد العبد حلاوة الإيمان . كما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما . ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله . ومن كان يكره أن يرجع إلى الكفر - بعد إذ أنقذه الله منه - كما يكره أن يلقى في النار .

فعلق ذوق الإيمان بالرضا بالله ربا . وعلق وجود حلاوته بما هو موقوف عليه . ولا يتم إلا به ، وهو كونه سبحانه أحب الأشياء إلى العبد هو ورسوله .

ولما كان هذا الحب التام ، والإخلاص - الذي هو ثمرته - أعلى من مجرد الرضا بربوبيته سبحانه : كانت ثمرته أعلى . وهو وجد حلاوة الإيمان . وثمرة الرضا : ذوق طعم الإيمان . فهذا وجد حلاوة ، وذلك ذوق طعم . والله المستعان .

وإنما ترتب هذا وهذا على الرضا به وحده ربا ، والبراءة من عبودية ما سواه ، وميل القلب بكليته إليه ، وانجذاب قوى المحب كلها إليه . ورضاه عن ربه تابع لهذا الرضا به . فمن رضي بالله ربا رضيه الله له عبدا . ومن رضي عنه في عطائه ومنعه وبلائه وعافيته : لم ينل بذلك درجة رضا الرب عنه ، إن لم يرض به ربا ، وبنبيه رسولا ، وبالإسلام دينا ، فإن العبد قد يرضى عن الله ربه فيما أعطاه وفيما منعه ، ولكن لا يرضى به وحده معبودا وإلها . ولهذا إنما ضمن رضا العبد يوم القيامة لمن رضي به ربا . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم من قال كل يوم : رضيت بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا : إلا كان حقا على الله أن يرضيه يوم القيامة .

التالي السابق


الخدمات العلمية