مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

قال : الدرجة الثالثة : الرضا برضا الله . فلا يرى العبد لنفسه سخطا ، ولا رضا . فيبعثه على ترك التحكم ، وحسم الاختيار ، وإسقاط التمييز ، ولو أدخل النار .

[ ص: 231 ] إنما كانت هذه الدرجة أعلى مما قبلها من الدرجات عنده : لأنها درجة صاحب الجمع ، الفاني بربه عن نفسه وعما منها ، قد غيبه شاهد رضا الله بالأشياء في وقوعها على مقتضى مشيئته عن شاهد رضاه هو . فيشهد الرضا لله ومنه حقيقة . ويرى نفسه فانيا ، ذاهبا مفقودا . فهو يستوحش من نفسه ، ومن صفاتها ، ومن رضاها ، ومن سخطها ، فهو عامل على التغيب عن وجوده وعما منه . مترام إلى العدم المحض . قد تلاشى وجوده ونفسه وصفاتها في وجود مولاه الملك الحق وصفاته وأفعاله . كما يتلاشى ضوء السراج الضعيف في جرم الشمس . فغاب برضا ربه عن رضاه هو وعن ربه في أقضيته وأقداره . وغاب بصفات ربه عن صفاته . وبأفعاله عن أفعاله . فتلاشى وجوده وصفاته وأفعاله في جنب وجود ربه وصفاته ، بحيث صار كالعدم المحض . وفي هذا المقام لا يرى لنفسه رضا ولا سخطا . فيوجب له هذا الفناء : ترك التحكم على الله بأمر من الأمور . وترك التخير عليه . فتذهب مادة التحكم وتفنى . وتنحسم مادة الاختيار وتتلاشى . وعند ذلك يسقط تمييز العبد ويتلاشى . هذا تقدير كلامه .

وبعد ، فهاهنا أمران .

أحدهما : أن هذا حال يعرض . لا مقام يطلب ، ويشمر إليه . فإن هذه الحال متى عرضت له وارت عنه تمييزه . ولا يمكن أن يدوم له ذلك . بل يقصر زمنه ويطول . ثم يرجع إلى تمييزه وعقله . وصاحب هذه الحال مغلوب : إما سكران . بحاله ، وإما فان عن وجوده . والكمال وراء ذلك . وهو أن يكون فانيا عن إرادته بإرادة ربه منه . فيكون باقيا بوجود آخر غير وجوده الطبيعي . وهو وجود مطهر كائن بالله . ولله . ومع الله . وصاحب هذا في مقام : " فبي يسمع ، وبي يبصر ، وبي يبطش " . قد فني عن وجوده الطبيعي والنفسي . وبقي بهذا الوجود العلوي القدسي . فيعود عليه تمييزه ، وفرقانه ، ورضاه عن ربه تعالى ، ومقامات إيمانه . وهذا أكمل وأعلى من فنائه عنها كالسكران .

فإن قلت : فهل يمكن وصوله إلى هذا المقام من غير درب الفناء ، وعبوره إليه على غير جسره ؟

قلت : اختلف في ذلك . فطائفة ظنت أنه لا يصل إلى البقاء ، وإلى هذا الوجود المطهر إلا بعد عبوره على جسر الفناء . فعدوه لازما من لوازم السير إلى الله .

وقالت طائفة : بل يمكن الوصول إلى البقاء على غير درب الفناء ، والفناء عندهم عارض من عوارض الطريق ، لا لازم . وسببه : قوة الوارد وضعف المحل واستجلابه بتعاطي أسبابه .

[ ص: 232 ] والتحقيق : أنه لا يصل إلى هذا المقام إلا بعد عبوره على جسر الفناء عن مراده بمراد سيده . فما دام لم يحصل له هذا الفناء فلا سبيل له إلى ذلك البقاء .

وأما فناؤه عن وجوده : فليس شرطا لذلك البقاء . ولا هو من لوازمه .

وصاحب هذا المقام : هو في رضاه عن ربه بربه لا بنفسه . كما هو في توكله ، وتفويضه ، وتسليمه ، وإخلاصه ، ومحبته ، وغير ذلك من أحواله بربه ، لا بنفسه .

فيرى ذلك كله من عين المنة والفضل ، مستعملا فيه . قد أقيم فيه . لا أنه قد قام هو به . فهو واقف بين مشهد لمن شاء منكم أن يستقيم ومشهد وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين . والله المستعان .

التالي السابق


الخدمات العلمية