مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل وأصل الشكر في وضع اللسان : ظهور أثر الغذاء في أبدان الحيوان ظهورا بينا . يقال : شكرت الدابة تشكر شكرا على وزن سمنت تسمن سمنا : إذا ظهر عليها أثر العلف ، ودابة شكور : إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تأكل وتعطى من العلف .

وفي صحيح مسلم حتى إن الدواب لتشكر من لحومهم أي لتسمن من كثرة ما تأكل منها .

وكذلك حقيقته في العبودية . وهو ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده : ثناء واعترافا . وعلى قلبه : شهودا ومحبة . وعلى جوارحه : انقيادا وطاعة .

والشكر مبني على خمس قواعد : خضوع الشاكر للمشكور . وحبه له . واعترافه بنعمته . وثناؤه عليه بها . وأن لا يستعملها فيما يكره .

فهذه الخمس : هي أساس الشكر . وبناؤه عليها . فمتى عدم منها واحدة : اختل من قواعد الشكر قاعدة .

وكل من تكلم في الشكر وحده ، فكلامه إليها يرجع . وعليها يدور .

فقيل : حده الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع .

وقيل : الثناء على المحسن بذكر إحسانه .

[ ص: 135 ] وقيل : هو عكوف القلب على محبة النعم ، والجوارح على طاعته ، وجريان اللسان بذكره ، والثناء عليه .

وقيل : هو مشاهدة المنة . وحفظ الحرمة .

وما ألطف ما قال حمدون القصار : شكر النعمة أن ترى نفسك فيها طفيليا .

وقال أبو عثمان : الشكر معرفة العجز عن الشكر .

وقيل : الشكر إضافة النعم إلى موليها بنعت الاستكانة له .

وقال الجنيد : الشكر أن لا ترى نفسك أهلا للنعمة .

هذا معنى قول حمدون أن يرى نفسه فيها طفيليا .

وقال رويم : الشكر استفراغ الطاقة .

وقال الشبلي : الشكر رؤية المنعم لا رؤية النعمة .

قلت : يحتمل كلامه أمرين .

أحدهما : أن يفنى برؤية المنعم عن رؤية نعمه .

والثاني : أن لا تحجبه رؤية نعمه ومشاهدتها عن رؤية المنعم بها . وهذا أكمل . والأول أقوى عندهم .

والكمال : أن تشهد النعمة والمنعم . لأن شكره بحسب شهود النعمة . فكلما كان أتم كان الشكر أكمل . والله يحب من عبده : أن يشهد نعمه ، ويعترف له بها . ويثني عليه بها . ويحبه عليها . لا أن يفنى عنها . ويغيب عن شهودها .

وقيل : الشكر قيد النعم الموجودة ، وصيد النعم المفقودة .

وشكر العامة : على المطعم والمشرب والملبس ، وقوت الأبدان .

وشكر الخاصة : على التوحيد والإيمان وقوت القلوب .

وقال داود عليه السلام : يا رب ، كيف أشكرك ؟ وشكري لك نعمة علي من عندك تستوجب بها شكرا . فقال : الآن شكرتني يا داود .

[ ص: 236 ] وفي أثر آخر إسرائيلي : أن موسى صلى الله عليه وسلم قال يا رب ، خلقت آدم بيدك . ونفخت فيه من روحك . وأسجدت له ملائكتك . وعلمته أسماء كل شيء . وفعلت وفعلت . فكيف شكرك ؟ قال الله عز وجل : علم أن ذلك مني . فكانت معرفته بذلك شكرا لي .

وقيل : الشكر التلذذ بثنائه ، على ما لم تستوجب من عطائه .

وقال الجنيد - وقد سأله سري عن الشكر ، وهو صبي - الشكر : أن لا يستعان بشيء من نعم الله على معاصيه . فقال : من أين لك هذا ؟ قال : من مجالستك .

وقيل : من قصرت يداه عن المكافآت فليطل لسانه بالشكر .

والشكر معه المزيد أبدا . لقوله تعالى : لئن شكرتم لأزيدنكم فمتى لم تر حالك في مزيد . فاستقبل الشكر .

وفي أثر إلهي : يقول الله عز وجل أهل ذكري أهل مجالستي ، وأهل شكري أهل زيادتي ، وأهل طاعتي أهل كرامتي ، وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي . إن تابوا فأنا حبيبهم ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم . أبتليهم بالمصائب ، لأطهرهم من المعايب .

وقيل : من كتم النعمة فقد كفرها . ومن أظهرها ونشرها فقد شكرها .

وهذا مأخوذ من قوله : صلى الله عليه وسلم إن الله إذا أنعم على عبد بنعمة أحب أن يرى أثر نعمته على عبده .

وفي هذا قيل :


ومن الرزية أن شكري صامت عما فعلت وأن برك ناطق     وأرى الصنيعة منك ثم أسرها
إني إذا لندى الكريم لسارق

التالي السابق


الخدمات العلمية