مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

قال صاحب " المنازل " :

الشكر : اسم لمعرفة النعمة . لأنها السبيل إلى معرفة المنعم . ولهذا سمى الله تعالى الإسلام والإيمان في القرآن : شكرا .

فمعرفة النعمة : ركن من أركان الشكر . لا أنها جملة الشكر ، كما تقدم : أنه الاعتراف بها ، والثناء عليه بها ، والخضوع له ومحبته ، والعمل بما يرضيه فيها . لكن لما كان معرفتها ركن الشكر الأعظم ، الذي يستحيل وجود الشكر بدونه : جعل أحدهما اسما للآخر .

قوله : لأنه السبيل إلى معرفة المنعم .

يعني أنه إذا عرف النعمة توصل بمعرفتها إلى معرفة المنعم بها .

وهذا من جهة معرفة كونها نعمة ، لا من أي جهة عرفها بها . ومتى عرف المنعم أحبه . وجد في طلبه . فإن من عرف الله أحبه لا محالة . ومن عرف الدنيا أبغضها لا محالة .

[ ص: 238 ] وعلى هذا : يكون قوله : الشكر اسم لمعرفة النعمة . مستلزما لمعرفة المنعم . ومعرفته تستلزم محبته . ومحبته تستلزم شكره .

فيكون قد ذكر بعض أقسام الشكر باللفظ . ونبه على سائرها باللزوم . وهذا من أحسن اختصاره . وكمال معرفته وتصوره ، قدس الله روحه .

قال : ومعاني الشكر ثلاثة أشياء : معرفة النعمة . ثم قبول النعمة . ثم الثناء بها . وهو أيضا من سبل العامة .

أما معرفتها : فهو إحضارها في الذهن ، ومشاهدتها وتمييزها .

فمعرفتها : تحصيلها ذهنا ، كما حصلت له خارجا . إذ كثير من الناس تحسن إليه وهو لا يدري . فلا يصح من هذا الشكر .

قوله : ثم قبول النعمة .

قبولها : هو تلقيها من المنعم بإظهار الفقر والفاقة إليها . وأن وصولها إليه بغير استحقاق منه ، ولا بذل ثمن . بل يرى نفسه فيها كالطفيلي . فإن هذا شاهد بقبولها حقيقة .

قوله : ثم الثناء بها .

الثناء على المنعم ، المتعلق بالنعمة نوعان : عام ، وخاص . فالعام : وصفه بالجود والكرم ، والبر والإحسان ، وسعة العطاء ، ونحو ذلك .

والخاص : التحدث بنعمته ، والإخبار بوصولها إليه من جهته . كما قال تعالى وأما بنعمة ربك فحدث .

وفي هذا التحديث المأمور به قولان .

أحدهما : أنه ذكر النعمة ، والإخبار بها . وقوله : أنعم الله علي بكذا وكذا . قال مقاتل : يعني اشكر ما ذكر من النعم عليك في هذه السورة : من جبر اليتم ، والهدى بعد الضلال ، والإغناء بعد العيلة .

والتحدث بنعمة الله شكر . كما في حديث جابر مرفوعا من صنع إليه معروف فليجز [ ص: 239 ] به . فإن لم يجد ما يجزي به فليثن . فإنه إذا أثنى عليه فقد شكره . وإن كتمه فقد كفره ، ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور .

فذكر أقسام الخلق الثلاثة : شاكر النعمة المثني بها ، والجاحد لها والكاتم لها . والمظهر أنه من أهلها ، وليس من أهلها . فهو متحل بما لم يعطه .

وفي أثر آخر مرفوع : من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير . ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله . والتحدث بنعمة الله شكر . وتركه كفر . والجماعة رحمة والفرقة عذاب .

والقول الثاني : أن التحدث بالنعمة المأمور به في هذه الآية : هو الدعوة إلى الله ، وتبليغ رسالته ، وتعليم الأمة . قال مجاهد : هي النبوة . قال الزجاج : أي بلغ ما أرسلت به ، وحدث بالنبوة التي آتاك الله . وقال الكلبي : هو القرآن . أمره أن يقرأه .

والصواب : أنه يعم النوعين . إذ كل منهما نعمة مأمور بشكرها والتحدث بها . وإظهارها من شكرها .

قوله : وهو أيضا من سبل العامة .

يا ليت الشيخ صان كتابه عن هذا التعليل . إذ جعل نصف الإسلام والإيمان من أضعف السبل .

بل الشكر سبيل رسل الله وأنبيائه - صلى الله عليهم وسلم أجمعين - أخص خلقه ، وأقربهم إليه .

ويا عجبا ! أي مقام أرفع من الشكر الذي يندرج فيه جميع مقامات الإيمان ، حتى المحبة والرضا ، والتوكل وغيرها ؟ فإن الشكر لا يصح إلا بعد حصولها . وتالله ليس لخواص أولياء الله ، وأهل القرب منه سبيل أرفع من الشكر ولا أعلى . لأن الشكر عندهم يتضمن نوع دعوى . وأنه شكر الحق على إنعامه . ففي الشاكر بقية من بقايا رسمه . لم يتخلص عنها ، ويفرغ منها . فلو فني عنها - بتحققه أن الحق سبحانه هو الذي شكر نفسه [ ص: 240 ] بنفسه ، وأن من لم يكن كيف يشكر من لم يزل - علم أن الشكر من منازل العامة . ولو أن السلطان كسا عبدا من عبيده ثوبا من ثيابه . فأخذ يشكر السلطان على ذلك : لعد مخطئا ، مسيئا للأدب . فإنه مدع بذلك مكافأة السلطان بشكره . فإن الشكر مكافأة . والعبد أصغر قدرا من المكافأة . والشهود للحقيقة يقتضي اتحاد نسبة الأخذ والعطاء ، ورجوعها إلى وصف المعطي وقوته . فالخاصة يسقط عندهم الشكر بالشهود ، وفي حقهم ما هو أعلى منه .

هذا غاية تقرير كلامهم . وكسوته أحسن عبارة . لئلا يتعدى عليهم بسوء التعبير الموجب للتنفير .

ونحن معنا العصمة النافعة : أن كل أحد - غير المعصوم صلى الله عليه وسلم - فمأخوذ من قوله ومتروك . وكل سبيل لا يوافق سبيله فمهجور غير مسلوك .

فأما تضمن الشكر لنوع دعوى . فإن أريد بهذه الدعوى إضافة العبد الفعل إلى نفسه ، وأنه كان به وغاب بذلك عن كونه بحول الله وقوته ومنته على عبده : فلعمر الله هذه علة مؤثرة . ودعوى باطلة كاذبة .

وإن أريد : أن شهوده لشكره شهوده لنعمة الله عليه به ، وتوفيقه له فيه ، وإذنه له به ، ومشيئته عليه ومنته . فشهد عبوديته وقيامه بها ، وكونها بالله . فأي دعوى في هذا ؟ وأي علة ؟ .

نعم غايته : أنه لا يجامع الفناء . ولا يخوض تياره . فكان ماذا ؟ .

فأنتم جعلتم الفناء غاية . فأوجب لكم ما أوجب . وقدمتموه على ما قدمه الله ورسوله . فتضمن ذلك تقديم ما أخر ، وتأخير ما قدم . وإلغاء ما اعتبر ، واعتبار ما ألغي .

ولولا منة الله على الصادقين منكم بتحكيم الرسالة ، والتقيد بالشرع لكان أمرا غير هذا . كما جرى لغير واحد من السالكين على هذه الطريق الخطرة . فلا إله إلا الله . كم فيها من قتيل وسليب ، وجريح وأسير وطريد ؟ .

وأما قولكم : إن الشاكر فيه بقية من بقايا رسمه .

فيقال : إذا كانت هذه البقية محض العبودية ومركبها ، والحاملة لها : فأي نقص في هذا ؟ فإن العبودية لا تقوم بنفسها . وإنما تقوم بهذا الرسم . فلا نقص في حمل العبودية عليه ، والسير به إلى الله عز وجل .

[ ص: 241 ] نعم ، النقص كل النقص : في حمل النفس والشهوة والحظ المخالف لمراد الرب تعالى الديني على هذا الرسم ، والسير به إلى النفس . ولعل العامل على الفناء بهذه المثابة . وهو ملبوس عليه . فالعارف يستقصي التفتيش عن كمائن النفس .

وأما قولكم : من لم يكن كيف يشكر من لم يزل ؟ فهذا بالشطح أليق منه بالمعرفة . فإن من لم يزل إذا أمر من لم يكن بالشكر ، ورضيه منه وأحبه وأثنى عليه به ، واستدعاه واقتضاه منه ، وأوجب له به المزيد ، وأضافه إليه ، واشتق منه له الاسم ، وأوقع عليه به الحكم ، وأخبر أنه غاية رضاه منه . وأمره - مع ذلك - أن يشهد أن شكره به ، وبإذنه ومشيئته وتوفيقه : فهذا شكر من لم يكن لمن يزل . وهو محض العبودية .

وأما ضربكم مثل كسوة السلطان لعبده ، وأخذه في الشكر له مكافأة : فهذا من أبطل الأمثلة عقلا ونقلا وفطرة . وهو الحجاب الذي أوجب لمن قال : إن شكر المنعم لا يجب عقلا ، ما قال ذلك . حتى زعم أن شكره قبيح عقلا . ولولا الشرع لما حسن الإقدام عليه . وضرب هذا المثل الذي ضربتموه بعينه . وهذا من القياس الفاسد ، المتضمن قياس الخالق على المخلوق ، وبمثله عبدت الشمس والقمر والأوثان ، إذ قال المشركون : جناب العظيم لا يهجم عليه بغير وسائل ووسائط . وسرت هاتان الرقيقتان فيمن فسد من أهل التعبد وأهل النظر والبحث . والمعصوم من عصمه الله .

فيقال : الفرق من وجوه كثيرة جدا . تفوت الحصر .

منها : أن الملك محتاج فقير إلى من أنعم عليه ، لا يقوم ملكه إلا به . فهو محتاج إلى معاوضة بتلك الكسوة - مثلا - خدمة له ، وحفظا له ، وذبا عنه ، وسعيا في تحصيل مصالحه . فكسوته له من باب المعاوضة والمعاونة . فإذا أخذ في شكره . فكأنه جعل ذلك ثمنا لنعمته . وليس بثمن لها .

وأما إنعام الرب تعالى على عبده : فإحسان إليه ، وتفضل عليه ، ومجرد امتنان . لا لحاجة منه إليه ، ولا لمعاوضة ، ولا لاستعانة به ، ولا ليتكثر به من قلة ، ولا ليتعزز به من ذلة ، ولا ليقوى به من ضعف . سبحانه وبحمده .

وأمره له بالشكر أيضا : إنعام آخر عليه . وإحسان منه إليه . إذ منفعة الشكر ترجع إلى العبد دنيا وآخرة . لا إلى الله . والعبد هو الذي ينتفع بشكره . كما قال تعالى : [ ص: 242 ] ومن شكر فإنما يشكر لنفسه فشكر العبد إحسان منه إلى نفسه دنيا وأخرى . فلا يذم ما أتى به من ذلك ، وإن كان لا يحسن مقابلة المنعم به . ولا يستطيع شكره . فإنه إنما هو محسن إلى نفسه بالشكر . لا أنه مكافئ به لنعم الرب . فالرب تعالى لا يستطيع أحد أن يكافئ نعمه أبدا ، ولا أقلها ، ولا أدنى نعمة من نعمه . فإنه تعالى هو المنعم المتفضل ، الخالق للشكر والشاكر ، وما يشكر عليه . فلا يستطيع أحد أن يحصي ثناء عليه . فإنه هو المحسن إلى عبده بنعمه ، وأحسن إليه بأن أوزعه شكرها . فشكره نعمة من الله أنعم بها عليه . تحتاج إلى شكر آخر . وهلم جرا .

ومن تمام نعمته سبحانه ، وعظيم بره وكرمه وجوده : محبته له على هذا الشكر . ورضاه منه به . وثناؤه عليه به ، ومنفعته وفائدته مختصة بالعبد . لا تعود منفعته على الله . وهذا غاية الكرم الذي لا كرم فوقه . ينعم عليك ثم يوزعك شكر النعمة ، ويرضى عنك . ثم يعيد إليك منفعة شكرك . ويجعله سببا لتوالي نعمه واتصاله إليك ، والزيادة على ذلك منها .

وهذا الوجه وحده يكفي اللبيب ليتنبه به على ما بعده .

وأما كون الشهود يسقط الشكر : فلعمر الله ، إنه إسقاط لحق المشكور بحظ الشاهد . نعم بحظ عظيم متعلق بالحق عز وجل ، لا حظ سفلي ، متعلق بالكائنات ولكن صاحبه قد سار من حرم إلى حرم .

وكان يقع لي هذا القدر منذ أزمان . ولا أتجرأ على التصريح به . لأن أصحابه يرون من ذكرهم به بعين الفرق الأول . فلا يصغون إليه ألبتة ، لا سيما وقد ذاقوا حلاوته ولذته . ورأوا تخبيط أهل الفرق الأول ، وتلوثهم بنفوسهم وعوالمها . وانضاف إلى ذلك : أن جعلوه غاية ، فتركب من هذه الأمور ما تركب . وإذا لاحت الحقائق فليقل القائل ما شاء .

التالي السابق


الخدمات العلمية