مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل منزلة الإيثار

ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الإيثار . قال الله تعالى : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون .

فالإيثار ضد الشح . فإن المؤثر على نفسه تارك لما هو محتاج إليه . والشحيح : حريص على ما ليس بيده . فإذا حصل بيده شيء شح عليه . وبخل بإخراجه . فالبخل ثمرة الشح . والشح يأمر بالبخل ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : إياكم والشح . فإن الشح أهلك من كان قبلكم . أمرهم بالبخل فبخلوا . وأمرهم بالقطيعة فقطعوا .

فالبخيل : من أجاب داعي الشح . والمؤثر : من أجاب داعي الجود .

كذلك السخاء عما في أيدي الناس هو السخاء . وهو أفضل من سخاء البذل .

قال عبد الله بن المبارك : سخاء النفس عما في أيدي الناس أفضل من سخاء النفس بالبذل .

[ ص: 278 ] وهذا المنزل : هو منزل الجود والسخاء والإحسان .

وسمي بمنزل الإيثار لأنه أعلى مراتبه ، فإن المراتب ثلاثة .

إحداها : أن لا ينقصه البذل ، ولا يصعب عليه . فهو منزلة السخاء .

الثانية : أن يعطي الأكثر ، ويبقي له شيئا ، أو يبقي مثل ما أعطى . فهو الجود .

الثالثة : أن يؤثر غيره بالشيء مع حاجته إليه ، وهو مرتبة الإيثار وعكسها الأثرة وهو استئثاره عن أخيه بما هو محتاج إليه . وهي المرتبة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار رضي الله عنهم : إنكم ستلقون بعدي أثرة . فاصبروا حتى تلقوني على الحوض والأنصار : هم الذين وصفهم الله بالإيثار في قوله : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة فوصفهم بأعلى مراتب السخاء ، وكان ذلك فيهم معروفا .

وكان قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما من الأجواد المعروفين . حتى إنه مرض مرة ، فاستبطأ إخوانه في العيادة . فسأل عنهم ؟ فقالوا : إنهم كانوا يستحيون مما لك عليهم من الدين . فقال : أخزى الله مالا يمنع الإخوان من الزيارة . ثم أمر مناديا ينادي : من كان لقيس عليه مال فهو منه في حل . فما أمسى حتى كسرت عتبة بابه ، لكثرة من عاده .

وقالوا له يوما : هل رأيت أسخى منك ؟ قال : نعم . نزلنا بالبادية على امرأة . فحضر زوجها . فقالت : إنه نزل بك ضيفان . فجاء بناقة فنحرها ، وقال : شأنكم ؟ فلما كان من الغد جاء بأخرى فنحرها . فقلنا : ما أكلنا من التي نحرت البارحة إلا اليسير . فقال : إني لا أطعم ضيفاني البائت . فبقينا عنده يومين أو ثلاثة ، والسماء تمطر . وهو يفعل ذلك . فلما أردنا الرحيل وضعنا مائة دينار في بيته ، وقلنا للمرأة : اعتذري لنا إليه . ومضينا . فلما طلع النهار إذا نحن برجل يصيح خلفنا : قفوا . أيها الركب اللئام . أعطيتموني ثمن قراي ؟ ثم إنه لحقنا ، وقال : لتأخذنه أو لأطاعننكم برمحي . فأخذناه وانصرف .

فتأمل سر التقدير ، حيث قدر الحكيم الخبير - سبحانه - استئثار الناس على الأنصار بالدنيا - وهم أهل الإيثار - ليجازيهم على إيثارهم إخوانهم في الدنيا على نفوسهم بالمنازل العالية في جنات عدن على الناس . فتظهر حينئذ فضيلة إيثارهم ودرجته ويغبطهم من [ ص: 279 ] استأثر عليهم بالدنيا أعظم غبطة . وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .

فإذا رأيت الناس يستأثرون عليك - مع كونك من أهل الإيثار - فاعلم أنه لخير يراد بك . والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية