مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل مراتب الجود

والجود عشر مراتب .

إحداها : الجود بالنفس . وهو أعلى مراتبه ، كما قال الشاعر :


يجود بالنفس ، إذ ضن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود

الثانية : الجود بالرياسة . وهو ثاني مراتب الجود . فيحمل الجواد جوده على امتهان رياسته ، والجود بها . والإيثار في قضاء حاجات الملتمس .

الثالثة : الجود براحته ورفاهيته ، وإجمام نفسه . فيجود بها تعبا وكدا في مصلحة غيره . ومن هذا جود الإنسان بنومه ولذته لمسامره ، كما قيل :


متيم بالندى ، لو قال سائله :     هب لي جميع كرى عينيك ، لم ينم

الرابعة : الجود بالعلم وبذله . وهو من أعلى مراتب الجود . والجود به أفضل من الجود بالمال . لأن العلم أشرف من المال .

والناس في الجود به على مراتب متفاوتة . وقد اقتضت حكمة الله وتقديره النافذ : أن لا ينفع به بخيلا أبدا .

ومن الجود به : أن تبذله لمن يسألك عنه ، بل تطرحه عليه طرحا .

ومن الجود بالعلم : أن السائل إذا سألك عن مسألة : استقصيت له جوابها جوابا شافيا ، لا يكون جوابك له بقدر ما تدفع به الضرورة ، كما كان بعضهم يكتب في جواب الفتيا : نعم ، أو : لا . مقتصرا عليها .

ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - في ذلك أمرا عجيبا :

كان إذا سئل عن مسألة حكمية ، ذكر في جوابها مذاهب الأئمة الأربعة ، إذا قدر ، ومأخذ الخلاف ، وترجيح القول الراجح . وذكر متعلقات المسألة التي ربما تكون أنفع للسائل من مسألته . فيكون فرحه بتلك المتعلقات ، واللوازم : أعظم من فرحه بمسألته . [ ص: 280 ] وهذه فتاويه - رحمه الله - بين الناس . فمن أحب الوقوف عليها رأى ذلك .

فمن جود الإنسان بالعلم : أنه لا يقتصر على مسألة السائل . بل يذكر له نظائرها ومتعلقها ومأخذها ، بحيث يشفيه ويكفيه .

وقد سأل الصحابة رضي الله عنهم النبي صلى الله عليه وسلم عن المتوضئ بماء البحر ؟ فقال هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته فأجابهم عن سؤالهم . وجاد عليهم بما لعلهم في بعض الأحيان إليه أحوج مما سألوه عنه .

وكانوا إذا سألوه عن الحكم نبههم على علته وحكمته . كما سألوه عن بيع الرطب بالتمر ؟ فقال : أينقص الرطب إذا جف ؟ قالوا : نعم . قال : فلا إذن ولم يكن يخفى عليه صلى الله عليه وسلم نقصان الرطب بجفافه ، ولكن نبههم على علة الحكم . وهذا كثير جدا في أجوبته صلى الله عليه وسلم . مثل قوله : إن بعت من أخيك ثمرة . فأصابتها جائحة فلا يحل لك أن تأخذ من مال أخيك شيئا . بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق ؟ وفي لفظ : أرأيت إن منع الله الثمرة : بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق ؟ فصرح بالعلة التي يحرم لأجلها إلزامه بالثمن . وهي منع الله الثمرة التي ليس للمشتري فيها صنع .

وكان خصومه - يعني شيخ الإسلام ابن تيمية - يعيبونه بذلك . ويقولون : سأله السائل عن طريق مصر - مثلا - فيذكر له معها طريق مكة ، والمدينة ، وخراسان ، والعراق ، والهند . وأي حاجة بالسائل إلى ذلك ؟ .

ولعمر الله ليس ذلك بعيب ، وإنما العيب : الجهل والكبر . وهذا موضع المثل المشهور :

[ ص: 281 ]

لقبوه بحامض وهو خل     مثل من لم يصل إلى العنقود

الخامسة : الجود بالنفع بالجاه . كالشفاعة والمشي مع الرجل إلى ذي سلطان ونحوه . وذلك زكاة الجاه المطالب بها العبد . كما أن التعليم وبذل العلم زكاته .

السادسة : الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه . كما قال صلى الله عليه وسلم : يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة . كل يوم تطلع فيه الشمس ، يعدل بين اثنين : صدقة . ويعين الرجل في دابته ، فيحمله عليها ، أو يرفع له عليها متاعه : صدقة . والكلمة الطيبة : صدقة ، وبكل خطوة يمشيها الرجل إلى الصلاة : صدقة . ويميط الأذى عن الطريق : صدقة متفق عليه .

السابعة : الجود بالعرض ، كجود أبي ضمضم من الصحابة رضي الله عنهم . كان إذا أصبح قال : اللهم إنه لا مال لي أتصدق به على الناس . وقد تصدقت عليهم بعرضي ، فمن شتمني ، أو قذفني : فهو في حل . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من يستطيع منكم أن يكون كأبي ضمضم ؟ .

وفي هذا الجود من سلامة الصدر ، وراحة القلب ، والتخلص من معاداة الخلق ما فيه .

الثامنة : الجود بالصبر ، والاحتمال ، والإغضاء . وهذه مرتبة شريفة من مراتبه . وهي أنفع لصاحبها من الجود بالمال ، وأعز له وأنصر ، وأملك لنفسه ، وأشرف لها . ولا يقدر عليها إلا النفوس الكبار .

فمن صعب عليه الجود بماله فعليه بهذا الجود . فإنه يجتني ثمرة عواقبه الحميدة في الدنيا قبل الآخرة . وهذا جود الفتوة . قال تعالى والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له وفي هذا الجود قال تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين [ ص: 282 ] فذكر المقامات الثلاثة في هذه الآية : مقام العدل ، وأذن فيه . ومقام الفضل ، وندب إليه . ومقام الظلم ، وحرمه .

التاسعة : الجود بالخلق والبشر والبسطة . وهو فوق الجود بالصبر ، والاحتمال والعفو . وهو الذي بلغ بصاحبه درجة الصائم القائم . وهو أثقل ما يوضع في الميزان . قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تحقرن من المعروف شيئا ، ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط إليه وفي هذا الجود من المنافع والمسار ، وأنواع المصالح ما فيه . والعبد لا يمكنه أن يسعهم بخلقه واحتماله .

العاشرة : الجود بتركه ما في أيدي الناس عليهم . فلا يلتفت إليه . ولا يستشرف له بقلبه ، ولا يتعرض له بحاله ، ولا لسانه . وهذا الذي قال عبد الله بن المبارك : إنه أفضل من سخاء النفس بالبذل .

فلسان حال القدر يقول للفقير الجواد : وإن لم أعطك ما تجود به على الناس ، فجد عليهم بزهدك في أموالهم . وما في أيديهم ، تفضل عليهم ، وتزاحمهم في الجود ، وتنفرد عنهم بالراحة .

ولكل مرتبة من مراتب الجود مزيد وتأثير خاص في القلب والحال . والله سبحانه قد ضمن المزيد للجواد ، والإتلاف للممسك . والله المستعان .

التالي السابق


الخدمات العلمية