مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
[ ص: 288 ] فصل

قال الدرجة الثالثة : إيثار إيثار الله . فإن الخوض في الإيثار دعوى في الملك . ثم ترك شهود رؤيتك إيثار الله . ثم غيبتك عن الترك .

يعني بإيثار إيثار الله : أن تنسب إيثارك إلى الله دون نفسك . وأنه هو الذي تفرد بالإيثار ، لا أنت . فكأنك سلمت الإيثار إليه . فإذا آثرت غيرك بشيء فإن الذي آثره هو الحق ، لا أنت . فهو المؤثر حقيقة . إذ هو المعطي حقيقة .

ثم بين الشيخ السبب الذي يصح به نسبة الإيثار إلى الله ، وترك نسبته إلى نفسك ، فقال فإن الخوض في الإيثار : دعوى في الملك .

فإذا ادعى العبد : أنه مؤثر فقد ادعى ملك ما آثر به غيره . والملك في الحقيقة : إنما هو لله الذي له كل شيء . فإذا خرج العبد عن دعوى الملك فقد آثر إيثار الله - وهو إعطاؤه - على إيثار نفسه . وشهد أن الله وحده هو المؤثر بملكه . وأما من لا ملك له : فأي إيثار له ؟ .

وقوله : ثم ترك شهود رؤيتك إيثار الله .

يعني أنك إذا آثرت إيثار الله بتسليمك معنى الإيثار إليه : بقيت عليك من نفسك بقية أخرى لا بد من الخروج عنها . وهي أن تعرض عن شهودك رؤيتك أنك آثرت الحق بإيثارك ، وأنك نسبت الإيثار إليه لا إليك . فإن في شهودك ذلك ، ورؤيتك له : دعوى أخرى . هي أعظم من دعوى الملك . وهي أنك ادعيت أن لك شيئا آثرت به الله . وقدمته على نفسك فيه ، بعد أن كان لك . وهذه الدعوى أصعب من الأولى . فإنها تتضمن ما تضمنته الأولى من الملك . وتزيد عليها برؤية الإيثار به فالأول : مدع للملك مؤثر به . وهذا مدع للملك ومدع للإيثار به . فإذن يجب عليه ترك شهود رؤيته لهذا الإيثار . فلا يعتقد أنه آثر الله بهذا الإيثار . بل الله هو الذي استأثر به دونك . فإن الأثرة واجبة له بإيجابه إياها بنفسه . لا بإيجاب العبد إياها له .

قوله : ثم غيبتك عن الترك .

يريد : أنك إذا نزلت هذا الشهود ، وهذه الرؤية : بقيت عليك بقية أخرى . وهي [ ص: 289 ] رؤيتك لهذا الترك المتضمنة لدعوى ملكك للترك . وهي دعوى كاذبة . إذ ليس للعبد شيء من الأمر . ولا بيده فعل ولا ترك . وإنما الأمر كله لله .

وقد تبين في الكشف والشهود والعلم والمعرفة : أن العبد ليس له شيء أصلا والعبد لا يملك حقيقة . إنما المالك بالحقيقة سيده . فالأثرة والإيثار والاستئثار كلها لله ومنه وإليه . سواء اختار العبد ذلك وعلمه ، أو جهله ، أم لم يختره . فالأثرة واقعة . كره العبد أم رضي . فإنها استئثار المالك الحق بملكه تعالى . وقد فهمت من هذا قوله : فإن الأثرة تحسن طوعا . وتصح كرها والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية