مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل منزلة التواضع

ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة التواضع

قال الله تعالى : وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا أي سكينة ووقارا متواضعين ، غير أشرين ، ولا مرحين ولا متكبرين . قال الحسن : علماء حلماء . وقال محمد بن الحنفية : أصحاب وقار وعفة لا يسفهون . وإن سفه عليهم حلموا .

والهون بالفتح في اللغة : الرفق واللين . والهون بالضم : الهوان . فالمفتوح منه : صفة أهل الإيمان . والمضموم : صفة أهل الكفران . وجزاؤهم من الله النيران .

وقال تعالى : ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين .

لما كان الذل منهم ذل رحمة وعطف وشفقة وإخبات عداه بأداة على تضمينا لمعاني هذه الأفعال . فإنه لم يرد به ذل الهوان الذي صاحبه ذليل . وإنما هو ذل اللين والانقياد الذي صاحبه ذلول ، فالمؤمن ذلول . كما في الحديث المؤمن كالجمل الذلول . والمنافق [ ص: 311 ] والفاسق ذليل وأربعة يعشقهم الذل أشد العشق : الكذاب . والنمام . والبخيل . والجبار .

وقوله : أعزة على الكافرين هو من عزة القوة والمنعة والغلبة . قال عطاء رضي الله عنه : للمؤمنين كالوالد لولده . وعلى الكافرين كالسبع على فريسته . كما قال في الآية الأخرى أشداء على الكفار رحماء بينهم وهذا عكس حال من قيل فيهم :


كبرا علينا ، وجبنا عن عدوكم لبئست الخلتان : الكبر ، والجبن

وفي صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله أوحى إلي : أن تواضعوا ، حتى لا يفخر أحد على أحد . ولا يبغي أحد على أحد .

وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر .

وفي الصحيحين مرفوعا ألا أخبركم بأهل النار ؟ كل عتل جواظ مستكبر .

وفي حديث احتجاج الجنة والنار أن النار قالت : ما لي لا يدخلني إلا الجبارون ، [ ص: 312 ] والمتكبرون ؟ وقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم . وهو في الصحيح .

وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد وعن أبي هريرة رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله عز وجل : العزة إزاري . والكبرياء ردائي . فمن نازعني عذبته .

وفي جامع الترمذي مرفوعا عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه : لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في ديوان الجبارين . فيصيبه ما أصابهم .

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر على الصبيان فيسلم عليهم .

وكانت الأمة تأخذ بيده صلى الله عليه وسلم . فتنطلق به حيث شاءت .

وكان صلى الله عليه وسلم إذا أكل لعق أصابعه الثلاث .

وكان صلى الله عليه وسلم يكون في بيته في خدمة أهله ، ولم يكن ينتقم لنفسه قط .

[ ص: 313 ] وكان صلى الله عليه وسلم يخصف نعله ، ويرقع ثوبه ، ويحلب الشاة لأهله ، ويعلف البعير ويأكل مع الخادم . ويجالس المساكين ، ويمشي مع الأرملة واليتيم في حاجتهما ، ويبدأ من لقيه بالسلام ، ويجيب دعوة من دعاه . ولو إلى أيسر شيء .

وكان صلى الله عليه وسلم هين المؤنة ، لين الخلق . كريم الطبع . جميل المعاشرة . طلق الوجه بساما ، متواضعا من غير ذلة ، جوادا من غير سرف ، رقيق القلب رحيما بكل مسلم خافض الجناح للمؤمنين ، لين الجانب لهم .

وقال صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم بمن يحرم على النار - أو تحرم عليه النار - تحرم على كل قريب هين لين سهل رواه الترمذي . وقال : حديث حسن .

وقال : لو دعيت إلى ذراع - أو كراع - لأجبت ، ولو أهدي إلي ذراع - أو كراع - لقبلت رواه البخاري .

[ ص: 314 ] وكان صلى الله عليه وسلم يعود المريض . ويشهد الجنازة . ويركب الحمار ، ويجيب دعوة العبد .

وكان يوم قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه إكاف من ليف .

التالي السابق


الخدمات العلمية