مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

سئل الفضيل بن عياض عن التواضع ؟ فقال : يخضع للحق ، وينقاد له . ويقبله ممن قاله .

وقيل : التواضع أن لا ترى لنفسك قيمة . فمن رأى لنفسه قيمة فليس له في التواضع نصيب .

وهذا مذهب الفضيل وغيره .

وقال الجنيد بن محمد : هو خفض الجناح ، ولين الجانب .

وقال أبو يزيد البسطامي : هو أن لا يرى لنفسه مقاما ولا حالا . ولا يرى في الخلق شرا منه .

وقال ابن عطاء : هو قبول الحق ممن كان . والعز في التواضع . فمن طلبه في الكبر فهو كتطلب الماء من النار .

وقال إبراهيم بن شيبان : الشرف في التواضع . والعز في التقوى . والحرية في القناعة .

ويذكر عن سفيان الثوري رحمه الله ، أنه قال : أعز الخلق خمسة أنفس : عالم زاهد وفقيه صوفي . وغني متواضع . وفقير شاكر . وشريف سني .

[ ص: 315 ] وقال عروة بن الزبير رضي الله عنهما : رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، لا ينبغي لك هذا . فقال : لما أتاني الوفود سامعين مطيعين . دخلت نفسي نخوة . فأردت أن أكسرها .

وولي أبو هريرة رضي الله عنه إمارة مرة . فكان يحمل حزمة الحطب على ظهره . ويقول : طرقوا للأمير .

وركب زيد بن ثابت مرة . فدنا ابن عباس ليأخذ بركابه . فقال : مه يا ابن عم رسول الله ! فقال : هكذا أمرنا أن نفعل بكبرائنا . فقال : أرني يدك . فأخرجها إليه فقبلها . فقال : هكذا أمرنا نفعل بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقسم عمر بن الخطاب رضي الله عنه بين الصحابة رضي الله عنهم حللا ، فبعث إلى معاذ حلة مثمنة . فباعها . واشترى بثمنها ستة أعبد وأعتقهم . فبلغ ذلك عمر . فبعث إليه بعد ذلك حلة دونها . فعاتبه معاذ ، فقال عمر : لأنك بعت الأولى . فقال معاذ : وما عليك ؟ ادفع لي نصيبي . وقد حلفت لأضربن بها رأسك فقال عمر رضي الله عنه : رأسي بين يديك . وقد يرفق الشاب بالشيخ .

ومر الحسن على صبيان معهم كسر خبز . فاستضافوه . فنزل فأكل معهم ، ثم حملهم إلى منزله . فأطعمهم وكساهم ، وقال : اليد لهم . لأنهم لا يجدون شيئا غير ما أطعموني ، ونحن نجد أكثر منه .

ويذكر أن أبا ذر رضي الله عنه عير بلالا رضي الله عنه بسواده ، ثم ندم . فألقى بنفسه . فحلف : لا رفعت رأسي حتى يطأ بلال خدي بقدمه . فلم يرفع رأسه حتى فعل بلال .

وقال رجاء بن حيوة . قومت ثياب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه - وهو يخطب - باثني عشر درهما . وكانت قباء وعمامة وقمصا وسراويل ورداء وخفين وقلنسوة .

ورأى محمد بن واسع ابنا له يمشي مشية منكرة . فقال : تدري بكم شريت أمك ؟ بثلاثمائة درهم ، وأبوك - لا كثر الله في المسلمين مثله - أنا . وأنت تمشي هذه المشية ؟ .

وقال حمدون القصار : التواضع أن لا ترى لأحد إلى نفسك حاجة ، لا في الدين ولا في الدنيا .

وقال إبراهيم بن أدهم : ما سررت في إسلامي إلا ثلاث مرات : كنت في سفينة ، وفيها رجل مضحاك . كان يقول : كنا في بلاد الترك فأخذ العلج هكذا - وكان يأخذ بشعر [ ص: 316 ] رأسي ويهزني - لأنه لم يكن في تلك السفينة أحد أحقر مني . والأخرى : كنت عليلا في مسجد . فدخل المؤذن ، وقال : اخرج . فلم أطق ، فأخذ برجلي وجرني إلى خارج . والأخرى : كنت بالشام وعلي فرو . فنظرت فيه فلم أميز بين شعره وبين القمل لكثرته . فسرني ذلك .

وفي رواية : كنت يوما جالسا . فجاء إنسان فبال علي .

وقال بعضهم : رأيت في الطواف رجلا بين يديه شاكرية يمنعون الناس لأجله عن الطواف ، ثم رأيته بعد ذلك بمدة على جسر بغداد يسأل شيئا . فتعجبت منه . فقال لي : إني تكبرت في موضع يتواضع الناس فيه ، فابتلاني الله بالذل في موضع يترفع الناس فيه .

وبلغ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : أن ابنا له اشترى خاتما بألف درهم . فكتب إليه عمر : بلغني أنك اشتريت فصا بألف درهم . فإذا أتاك كتابي فبع الخاتم . وأشبع به ألف بطن . واتخذ خاتما بدرهمين . واجعل فصه حديدا صينيا . واكتب عليه : رحم الله امرءا عرف قدر نفسه . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية