مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
قال : وهو على ثلاث درجات . الدرجة الأولى : التواضع للدين . وهو أن لا يعارض بمعقول منقولا . ولا يتهم للدين دليلا . ولا يرى إلى الخلاف سبيلا .

التواضع للدين ، هو الانقياد لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، والاستسلام له ، والإذعان . وذلك بثلاثة أشياء .

الأول : أن لا يعارض شيئا مما جاء به بشيء من المعارضات الأربعة السارية في العالم ، المسماة : بالمعقول ، والقياس ، والذوق ، والسياسة .

فالأولى : للمنحرفين أهل الكبر من المتكلمين ، الذين عارضوا نصوص الوحي بمعقولاتهم الفاسدة . وقالوا : إذا تعارض العقل والنقل : قدمنا العقل . وعزلنا النقل . إما عزل تفويض ، وإما عزل تأويل .

والثاني : للمتكبرين من المنتسبين إلى الفقه ، قالوا : إذا تعارض القياس والرأي والنصوص : قدمنا القياس على النص . ولم نلتفت إليه .

والثالث : للمتكبرين المنحرفين من المنتسبين إلى التصوف والزهد . فإذا تعارض عندهم الذوق والأمر . قدموا الذوق والحال . ولم يعبأوا بالأمر .

والرابع : للمتكبرين المنحرفين من الولاة والأمراء الجائرين . إذا تعارضت عندهم الشريعة والسياسة . قدموا السياسة . ولم يلتفتوا إلى حكم الشريعة .

فهؤلاء الأربعة : هم أهل الكبر . والتواضع : التخلص من ذلك كله .

الثاني : أن لا يتهم دليلا من أدلة الدين ، بحيث يظنه فاسد الدلالة ، أو ناقص الدلالة ، أو قاصرها ، أو أن غيره كان أولى منه . ومتى عرض له شيء من ذلك فليتهم فهمه ، وليعلم أن الآفة منه ، والبلية فيه ، كما قيل :

[ ص: 319 ]

وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم     ولكن تأخذ الأذهان منه على قدر القرائح والفهوم

وهكذا الواقع في الواقع حقيقة : أنه ما اتهم أحد دليلا للدين إلا وكان المتهم هو الفاسد الذهن . المأفون في عقله ، وذهنه . فالآفة من الذهن العليل . لا في نفس الدليل .

وإذا رأيت من أدلة الدين ما يشكل عليك ، وينبو فهمك عنه فاعلم أنه لعظمته وشرفه استعصى عليك ، وأن تحته كنزا من كنوز العلم . ولم تؤت مفتاحه بعد . هذا في حق نفسك .

وأما بالنسبة إلى غيرك : فاتهم آراء الرجال على نصوص الوحي ، وليكن ردها أيسر شيء عليك للنصوص ، فما لم تفعل ذلك فلست على شيء . ولو . . ولو . . وهذا لا خلاف فيه بين العلماء .

قال الشافعي ، قدس الله روحه : أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم يحل له أن يدعها لقول أحد .

الثالث : أن لا يجد إلى خلاف النص سبيلا ألبتة . لا بباطنه ، ولا بلسانه ولا بفعله . ولا بحاله . بل إذا أحس بشيء من الخلاف : فهو كخلاف المقدم على الزنا ، وشرب الخمر ، وقتل النفس . بل هذا الخلاف أعظم عند الله من ذلك . وهو داع إلى النفاق . وهو الذي خافه الكبار . والأئمة على نفوسهم .

واعلم أن المخالف للنص - لقول متبوعه وشيخه ومقلده ، أو لرأيه ومعقوله ، وذوقه ، وسياسته . إن كان عند الله معذورا ، ولا والله ما هو بمعذور - فالمخالف لقوله ، لنصوص الوحي أولى بالعذر عند الله ورسوله ، وملائكته . والمؤمنين من عباده .

فواعجبا إذا اتسع بطلان المخالفين للنصوص لعذر من خالفها تقليدا ، أو تأويلا ، أو لغير ذلك . فكيف ضاق عن عذر من خالف أقوالهم ، وأقوال شيوخهم . لأجل موافقة النصوص ؟ وكيف نصبوا له الحبائل . وبغوه الغوائل . ورموه بالعظائم . وجعلوه أسوأ حالا من أرباب الجرائم ؟ فرموه بدائهم وانسلوا منه لواذا . وقذفوه بمصابهم . وجعلوا تعظيم المتبوعين ملاذا لهم ومعاذا . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية