مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
[ ص: 345 ] فصل منزلة الإرادة

ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الإرادة

قال الله تعالى : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه وقال تعالى : وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى . وقال تعالى : وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما .

وقد أشكل على المتكلمين تعلق الإرادة بالله . وكون وجهه تعالى مرادا .

قالوا : الإرادة لا تتعلق إلا بالحادث . وأما بالقديم : فلا ؛ لأن القديم لا يراد .

وأولوا الإرادة المتعلقة به بإرادة التقرب إليه . ثم إنه لا يتصور عندهم التقرب إليه . فأولوا ذلك بإرادة طاعته الموجبة لجزائه .

هذا حاصل ما عندهم . وحجابهم في هذا الباب غليظ كثيف من أغلظ الحجب وأكثفها . ولهذا تجدهم أهل قسوة . ولا تجد عليهم روح السلوك ، ولا بهجة المحبة .

والطلب والإرادة عند أرباب السلوك : هي التجرد عن الإرادة . فلا تصح عندهم الإرادة إلا لمن لا إرادة له . ولا تظن أن هذا تناقض . بل هو محض الحق . واتفاق كلمة القوم عليه .

وقد تنوعت عبارات القوم عنها . وغالبهم يخبر عنها بأنها ترك العادة .

ومعنى هذا : أن عادة الناس غالبا التعريج على أوطان الغفلة ، وإجابة داعي الشهوة ، والإخلاد إلى أرض الطبيعة . والمريد منسلخ عن ذلك . فصار خروجه عنه : أمارة ودلالة على صحة الإرادة . فسمي انسلاخه وتركه إرادة .

وقيل : نهوض القلب في طلب الحق .

[ ص: 346 ] ويقال : لوعة تهون كل روعة .

قال الدقاق : الإرادة لوعة في الفؤاد ، لذعة في القلب ، غرام في الضمير ، انزعاج في الباطن ، نيران تأجج في القلوب .

وقيل : من صفات المريد : التحبب إلى الله بالنوافل ، والإخلاص في نصيحة الأمة ، والأنس بالخلوة ، والصبر على مقاساة الأحكام ، والإيثار لأمره ، والحياء من نظره ، وبذل المجهود في محبوبه . والتعرض لكل سبب يوصل إليه . والقناعة بالخمول . وعدم قرار القلب حتى يصل إلى وليه ومعبوده .

وقال حاتم الأصم : إذا رأيت المريد يريد غير مراده ، فاعلم أنه أظهر نذالته .

وقيل : من حكم المريد : أن يكون نومه غلبة ، وأكله فاقة ، وكلامه ضرورة .

وقال بعضهم : نهاية الإرادة : أن تشير إلى الله . فتجده مع الإشارة . فقيل له : وأين تستوعبه الإشارة ؟ فقال : أن تجد الله بلا إشارة . وهذا كلام متين .

فإن المراتب ثلاثة :

أعلاها : أن يكون واجدا لله في كل وقت . لا يتوقف وجوده له على الإشارة منه ولا من غيره .

الثاني : أن يكون له ملكة وحال وإرادة تامة ، بحيث إنه متى أشير له إلى الله وجده عند إشارة المشير .

الثالث : أن لا يكون كذلك ، ويتكلف وجدانه عند الإشارة إليه .

فالمرتبة الأولى : للمقربين السابقين . والوسطى : للأبرار المقتصدين . والثالثة : للغافلين .

وقال أبو عثمان الحيري : من لم تصح إرادته ابتداء ، فإنه لا يزيده مرور الأيام عليه إلا إدبارا .

وقال : المريد إذا سمع شيئا من علوم القوم فعمل به : صار حكمة في قلبه إلى آخر عمره ينتفع به . وإذا تكلم انتفع به من سمعه . ومن سمع شيئا من علومهم ولم يعمل به كان حكاية يحفظها أياما ثم ينساها .

وقال الواسطي : أول مقام المريد : إرادة الحق بإسقاط إرادته .

وقال يحيى بن معاذ : أشد شيء على المريد : معاشرة الأضداد .

وسئل الجنيد : ما للمريد حظ في مجازات الحكايات ؟ فقال : الحكايات جند من جند الله يثبت الله بها قلوب المريدين . ثم قرأ قوله تعالى : وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك .

[ ص: 347 ] وقد ذكر عن الجنيد كلمتان في الإرادة مجملتان . تحتاج كل منهما إلى تفسير . الكلمة الواحدة : قال أبو عبد الرحمن السلمي : سمعت محمد بن مخلد يقول : سمعت جعفرا يقول : سمعت الجنيد يقول : المريد الصادق غني من العلماء .

وقال أيضا : سمعت الجنيد يقول : إذا أراد الله بالمريد خيرا : أوقعه إلى الصوفية . ومنعه صحبة القراء .

قلت : إذا صدق المريد ، وصح عقد صدقه مع الله : فتح الله على قلبه ببركة الصدق ، وحسن المعاملة مع الله : ما يغنيه عن العلوم التي هي نتائج أفكار الناس وآرائهم . وعن العلوم التي هي فضلة ليست من زاد القبر . وعن كثير من إشارات الصوفية وعلومهم ، التي أفنوا فيها أعمارهم : من معرفة النفس وآفاتها وعيوبها ، ومعرفة مفسدات الأعمال ، وأحكام السلوك . فإن حال صدقه ، وصحة طلبه : يريه ذلك كله بالفعل .

ومثال ذلك : رجل قاعد في البلد يدأب ليله ونهاره في علم منازل الطريق وعقباتها وأوديتها ، ومواضع المتاهات فيها ، والموارد والمفاوز . وآخر : حمله الوجد وصدق الإرادة على أن ركب الطريق وسار فيها . فصدقه يغنيه عن علم ذلك القاعد ، ويريه إياها في سلوكه عيانا .

[ ص: 348 ] وأما أن يغنيه صدق إرادته عن علم الحلال والحرام ، وأحكام الأمر والنهي ، ومعرفة العبادات وشروطها وواجباتها ومبطلاتها ، وعن علم أحكام الله ورسوله على ظاهره وباطنه : فقد أعاذ الله من هو دون الجنيد من ذلك ، فضلا عن سيد الطائفة وإمامها ، وإنما يقول ذلك قطاع الطريق ، وزنادقة الصوفية وملاحدتهم ، الذين لا يرون اتباع الرسول شرطا في الطريق .

وأيضا فإن المريد الصادق : يفتح الله على قلبه ، وينوره بنور من عنده ، مضاف إلى ما معه من نور العلم ، يعرف به كثيرا من أمر دينه . فيستغني به عن كثير من علم الناس ، فإن العلم نور . وقلب الصادق ممتلئ بنور الصدق . ومعه نور الإيمان . والنور يهدي إلى النور . و الجنيد أخبر بهذا عن حاله . وهذا أمر جزئي ليس على عمومه بل صدقه يغنيه عن كثير من العلم . وأما عن جملة العلم : فكلام أبي القاسم الثابت عنه في ضرورة الصادق إلى العلم ، وأنه لا يفلح من لم يكن له علم ، وأن طريق القوم مقيدة بالعلم ، وأنه لا يحل لأحد أن يتكلم في الطريق إلا بالعلم ، فمشهور معروف قد ذكرنا فيما مضى طرفا منه . كقوله : من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر . لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة .

وأيضا فإن علم العلماء الذين أشار إليهم : هو ما فهموه واستنبطوه من القرآن والسنة .

والمريد الصادق : هو الذي قرأ القرآن وحفظ السنة ، والله يرزقه ببركة صدقه ونور قلبه فهما في كتابه وسنة رسوله يغنيه عن تقليد فهم غيره .

وأما قوله - يعني الجنيد - إذا أراد الله بالمريد خيرا : أوقعه على الصوفية . ومنعه صحبة القراء .

فالقراء في لسانهم : هم أهل التنسك والتعبد ، سواء كانوا يقرءون القرآن أم لا ، فالقارئ عندهم : هو الكثير التعبد والتنسك ، الذي قد قصر همته على ظاهر العبادة ، دون أرواح المعارف . ودون حقائق الإيمان ، وروح المحبة ، وأعمال القلوب ، فهمتهم كلها إلى العبادة ، ولا خبر عندهم مما عند أهل التصوف ، وأرباب القلوب وأهل المعارف . ولهذا قال من قال : طريقنا تفت لا تقسر .

فسير هؤلاء بالقلوب والأرواح ، وسير أولئك : بمجرد القوالب والأشباح ، وبين [ ص: 349 ] أرواح هؤلاء وقلوبهم وأرواح هؤلاء وقلوبهم : نوع تناكر وتنافر ، ولا يقدر أحدهم على صحبة النوع الآخر إلا على نوع إغضاء ، وتحميل للطبيعة ما تأباه . وهو من جنس ما بينهم وبين ظاهرية الفقهاء من التنافر . ويسمونهم : أصحاب الرسوم . ويسمون أولئك : القراء . والطائفتان عندهم : أهل ظواهر ، لا أرباب حقائق . هؤلاء مع رسوم العلم . وهؤلاء مع رسوم العبادة .

ثم إنهم - في أنفسهم - فريقان : صوفية وفقراء . وهم متنازعون في ترجيح الصوفية على الفقراء ، أو بالعكس ، أو هما سواء . على ثلاثة أقوال .

فطائفة رجحت الصوفي . منهم كثير من أهل العراق . وعلى هذا صاحب العوارف ، وجعلوا نهاية الفقير : بداية الصوفي .

وطائفة رجحت الفقير . وجعلوا الفقر لب التصوف وثمرته ، وهم كثير من أهل خراسان .

وطائفة ثالثة قالوا : الفقر والتصوف شيء واحد . وهؤلاء هم أهل الشام .

ولا يستقيم الحكم بين هؤلاء وهؤلاء حتى تتبين حقيقة الفقر والتصوف . وحينئذ يعلم : هل هما حقيقة واحدة ، أو حقيقتان ؟ ويعلم راجحهما من مرجوحهما .

وسترى ذلك مبينا إن شاء الله في منزلتي الفقر ، والتصوف إذا انتهينا إليهما . إن ساعد الله ومن بفضله وتوفيقه . فلا حول ولا قوة إلا بالله ، وبه المستعان . وعليه [ ص: 350 ] التكلان . وما شاء كان . وما لم يشأ لم يكن .

والمقصود : أن المراتب عندهم ثلاثة : مرتبة التقوى وهي مرتبة التعبد والتنسك .

ومرتبة التصوف وهي مرتبة التفتي بكل خلق حسن . والخروج من كل خلق ذميم .

ومرتبة الفقر وهي مرتبة التجرد ، وقطع كل علاقة تحول بين القلب وبين الله تعالى .

فهذه مراتب طلاب الآخرة . ومن عداهم : فمع القاعدين المتخلفين .

فأشار أبو القاسم الجنيد إلى أن المريد لله بصدق ، إذا أراد الله به خيرا : أوقعه على طائفة الصوفية ، يهذبون أخلاقه . ويدلونه على تزكية نفسه ، وإزالة أخلاقها الذميمة . والاستبدال بالأخلاق الحميدة . ويعرفونه منازل الطريق ومفازاتها ، وقواطعها وآفاتها .

وأما القراء : فيدقونه بالعبادة من الصوم والصلاة دقا . ولا يذيقونه شيئا من حلاوة أعمال القلوب ، وتهذيب النفوس . إذ ليس ذلك طريقهم . ولهذا بينهم وبين أرباب التصوف نوع تنافر ، كما تقدم .

والبصير الصادق : يضرب في كل غنيمة بسهم ، ويعاشر كل طائفة على أحسن ما معها . ولا يتحيز إلى طائفة . وينأى عن الأخرى بالكلية : أن لا يكون معها شيء من الحق . فهذه طريقة الصادقين . ودعوى الجاهلية كامنة في النفوس .

ولا أعني بذلك أصغريهم ولكني أريد به الدوينا سمع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته قائلا يقول : يا للمهاجرين ، وآخر يقول : يا للأنصار ! فقال : ما بال دعوى الجاهلية ، وأنا بين أظهركم ؟ .

هذا ، وهما اسمان شريفان . سماهم الله بهما في كتابه ، فنهاهم عن ذلك . وأرشدهم إلى أن يتداعوا ب " المسلمين والمؤمنين وعباد الله " وهي الدعوى الجامعة . بخلاف المفرقة . ك " الفلانية والفلانية " فالله المستعان .

[ ص: 351 ] وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر إنك امرؤ فيك جاهلية . فقال : على كبر السن مني يا رسول الله ؟ قال : نعم . فمن يأمن القراء بعدك يا شهر ؟

ولا يذوق العبد حلاوة الإيمان ، وطعم الصدق واليقين ، حتى تخرج الجاهلية كلها من قلبه . والله لو تحقق الناس في هذا الزمان ذلك من قلب رجل لرموه عن قوس واحدة . وقالوا : هذا مبتدع ، ومن دعاة البدع . فإلى الله المشتكى . وهو المسئول الصبر ، والثبات . فلا بد من لقائه وقد خاب من افترى . وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .

التالي السابق


الخدمات العلمية