مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
[ ص: 370 ] فصل

قال صاحب " المنازل " :

الأدب : حفظ الحد ، بين الغلو والجفاء ، بمعرفة ضرر العدوان .

هذا من أحسن الحدود . فإن الانحراف إلى أحد طرفي الغلو والجفاء : هو قلة الأدب . والأدب : الوقوف في الوسط بين الطرفين ، فلا يقصر بحدود الشرع عن تمامها . ولا يتجاوز بها ما جعلت حدودا له . فكلاهما عدوان . والله لا يحب المعتدين . والعدوان : هو سوء الأدب .

وقال بعض السلف : دين الله بين الغالي فيه والجافي عنه .

فإضاعة الأدب بالجفاء : كمن لم يكمل أعضاء الوضوء . ولم يوف الصلاة آدابها التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعلها . وهي قريب من مائة أدب : ما بين واجب ومستحب .

وإضاعته بالغلو : كالوسوسة في عقد النية . ورفع الصوت بها . والجهر بالأذكار والدعوات التي شرعت سرا . وتطويل ما السنة تخفيفه وحذفه . كالتشهد الأول والسلام الذي حذفه سنة . وزيادة التطويل على ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لا على ما يظنه سراق الصلاة والنقارون لها ويشتهونه . فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليأمر بأمر ويخالفه . وقد صانه الله من ذلك . وكان يأمرهم بالتخفيف ويؤمهم بالصافات ، ويأمرهم بالتخفيف وتقام صلاة الظهر ، فيذهب الذاهب إلى البقيع ، فيقضي حاجته . ويأتي أهله ويتوضأ . ويدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى . فهذا هو التخفيف الذي أمر به . لا نقر الصلاة وسرقها . فإن ذلك اختصار ، بل اقتصار على ما يقع عليه الاسم . ويسمى به مصليا ، وهو كأكل المضطر في المخمصة ما يسد به رمقه : فليته شبع على القول الآخر ، وهو كجائع قدم إليه طعام لذيذ جدا . فأكل منه لقمة أو لقمتين . فماذا يغنيان عنه ؟ ولكن لو أحس بجوعه لما قام من الطعام حتى يشبع منه وهو يقدر على ذلك . لكن القلب شبعان من شيء آخر .

ومثال هذا التوسط في حق الأنبياء عليهم السلام : أن لا يغلو فيهم ، كما غلت النصارى في المسيح ، ولا يجفو عنهم ، كما جفت اليهود . فالنصارى عبدوهم . واليهود قتلوهم وكذبوهم . والأمة الوسط : آمنوا بهم ، وعزروهم ونصروهم ، واتبعوا ما جاءوا به .

[ ص: 371 ] ومثال ذلك في حقوق الخلق : أن لا يفرط في القيام بحقوقهم ، ولا يستغرق فيها ، بحيث يشتغل بها عن حقوق الله ، أو عن تكميلها ، أو عن مصلحة دينه وقلبه ، وأن لا يجفو عنها حتى يعطلها بالكلية . فإن الطرفين من العدوان الضار . وعلى هذا الحد ، فحقيقة الأدب : هي العدل . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية