مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل في تفصيل ذلك 1 - أما الأول : فكقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما وقوله تعالى : واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة .

وفيه قولان ، أحدهما : في سرك وقلبك ، والثاني : بلسانك بحيث تسمع نفسك .

2 - وأما النهي عن ضده : فكقوله : ولا تكن من الغافلين وقوله : ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم .

3 - وأما تعليق الفلاح بالإكثار منه : فكقوله : واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون .

4 - وأما الثناء على أهله وحسن جزائهم : فكقوله : إن المسلمين والمسلمات إلى قوله : والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما .

5 - وأما خسران من لها عنه فكقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون .

[ ص: 398 ] 6 - وأما جعل ذكره لهم جزاء لذكرهم له فكقوله : فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون .

7 - وأما الإخبار عنه بأنه أكبر من كل شيء فكقوله تعالى : اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر وفيها أربعة أقوال :

أحدها : أن ذكر الله أكبر من كل شيء فهو أفضل الطاعات; لأن المقصود بالطاعات كلها : إقامة ذكره فهو سر الطاعات وروحها .

الثاني : أن المعنى : أنكم إذا ذكرتموه ذكركم فكان ذكره لكم أكبر من ذكركم له . فعلى هذا : المصدر مضاف إلى الفاعل ، وعلى الأول : مضاف إلى المذكور .

الثالث : أن المعنى : ولذكر الله أكبر من أن يبقى معه فاحشة ومنكر ، بل إذا تم الذكر : محق كل خطيئة ومعصية . هذا ما ذكره المفسرون .

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول : معنى الآية : أن في الصلاة فائدتين عظيمتين إحداهما : نهيها عن الفحشاء والمنكر ، والثانية : اشتمالها على ذكر الله وتضمنها له ولما تضمنته من ذكر الله أعظم من نهيها عن الفحشاء والمنكر .

8 - وأما ختم الأعمال الصالحة به : فكما ختم به عمل الصيام بقوله : ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون .

وختم به الحج في قوله : فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا .

وختم به الصلاة كقوله : فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم وختم به الجمعة كقوله : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون [ ص: 399 ] ولهذا كان خاتمة الحياة الدنيا ، وإذا كان آخر كلام العبد أدخله الله الجنة

9 - وأما اختصاص الذاكرين بالانتفاع بآياته وهم أولو الألباب والعقول فكقوله تعالى : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم

10 - وأما مصاحبته لجميع الأعمال واقترانه بها وأنه روحها : فإنه سبحانه قرنه بالصلاة كقوله : وأقم الصلاة لذكري وقرنه بالصيام وبالحج ومناسكه ، بل هو روح الحج ولبه ومقصوده . كما قال النبي : إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله .

وقرنه بالجهاد وأمر بذكره عند ملاقاة الأقران ومكافحة الأعداء فقال تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وفي أثر إلهي يقول الله تعالى : إن عبدي - كل عبدي - الذي يذكرني وهو ملاق قرنه .

سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يستشهد به وسمعته يقول : المحبون يفتخرون بذكر من يحبونه في هذه الحال ، كما قال عنترة :

ولقد ذكرتك والرماح كأنها أشطان بئر في لبان الأدهم

وقال الآخر :

ذكرتك والخطي يخطر بيننا     وقد نهلت منا المثقفة السمر

قال آخر :

ولقد ذكرتك والرماح شواجر     تحوي وبيض الهند تقطر من دمي

وهذا كثير في أشعارهم وهو مما يدل على قوة المحبة . فإن ذكر المحب محبوبه [ ص: 400 ] في تلك الحال التي لا يهم المرء فيها غير نفسه يدل على أنه عنده بمنزلة نفسه أو أعز منها ، وهذا دليل على صدق المحبة ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية