مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

والذاكرون : هم أهل السبق كما روى مسلم في صحيحه من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله يسير في طريق مكة فمر على جبل يقال له جمدان فقال : سيروا هذا جمدان سبق المفردون . قالوا : وما المفردون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا والذاكرات والمفردون إما الموحدون وإما الآحاد الفرادى وفي المسند مرفوعا من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه : ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب والفضة وأن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا : وما ذاك يا رسول الله ؟ قال : ذكر الله عز وجل .

وروى شعبة عن أبي إسحاق قال : سمعت الأغر قال : أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما أنهما شهدا على رسول الله قال : لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده وهو في صحيح مسلم .

ويكفي في شرف الذكر : أن الله يباهي ملائكته بأهله كما في صحيح مسلم عن معاوية رضي الله عنه : أن رسول الله : خرج على حلقة من أصحابه فقال : ما أجلسكم ؟ قالوا : جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن به علينا . قال : [ ص: 401 ] آلله ما أجلسكم إلا ذلك ؟ قالوا : آلله ما أجلسنا إلا ذلك . قال : أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ، ولكن أتاني جبريل فأخبرني : أن الله يباهي بكم الملائكة .

وسأل أعرابي رسول الله : أي الأعمال أفضل ؟ فقال : أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله وقال له رجل : إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فمرني بأمر أتشبث به . فقال : لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله .

وفي المسند وغيره من حديث جابر قال : خرج علينا رسول الله فقال : أيها الناس ارتعوا في رياض الجنة . قلنا : يا رسول الله وما رياض الجنة ؟ فقال : مجالس الذكر .

وقال : اغدوا وروحوا واذكروا ، من كان يحب أن يعلم منزلته عند الله ، فلينظر كيف منزلة الله عنده; فإن الله ينزل العبد منه حيث أنزله من نفسه وروى النبي عن أبيه إبراهيم ليلة الإسراء أنه قال له : أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر رواه الترمذي وأحمد وغيرهما .

وفي الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه عن النبي : مثل الذي [ ص: 402 ] يذكر ربه والذي لا يذكره : مثل الحي والميت ولفظ مسلم : مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه : مثل الحي والميت فجعل بيت الذاكر بمنزلة بيت الحي وبيت الغافل بمنزلة بيت الميت وهو القبر .

وفي اللفظ الأول : جعل الذاكر بمنزلة الحي والغافل بمنزلة الميت ، فتضمن اللفظان : أن القلب الذاكر كالحي في بيوت الأحياء ، والغافل كالميت في بيوت الأموات . ولا ريب أن أبدان الغافلين قبور لقلوبهم وقلوبهم فيها كالأموات في القبور ، كما قيل :

فنسيان ذكر الله موت قلوبهم وأجسامهم قبل القبور قبور     وأرواحهم في وحشة من جسومهم
وليس لهم حتى النشور نشور

وكما قيل :

فنسيان ذكر الله موت قلوبهم     وأجسامهم فهي القبور الدوارس
وأرواحهم في وحشة من حبيبهم     ولكنها عند الخبيث أوانس

وفي أثر إلهي : يقول الله تعالى : إذا كان الغالب على عبدي ذكري : أحبني وأحببته .

وفي آخر : فبي فافرحوا وبذكري فتنعموا .

وفي آخر : ابن آدم ما أنصفتني ! أذكرك وتنساني وأدعوك وتهرب إلى غيري ، وأذهب عنك البلايا وأنت معتكف على الخطايا . يا ابن آدم ما تقول غدا إذا جئتني ؟ .

وفي آخر : ابن آدم اذكرني حين تغضب : أذكرك حين أغضب ، وارض بنصرتي لك فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك .

وفي الصحيح في الأثر الذي يرويه رسول الله عن ربه تبارك وتعالى : من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم .

وقد ذكرنا في الذكر نحو مائة فائدة في كتابنا " الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب " [ ص: 403 ] وذكرنا هناك أسرار الذكر وعظم نفعه وطيب ثمرته وذكرنا فيه : أن الذكر ثلاثة أنواع : ذكر الأسماء والصفات ومعانيها ، والثناء على الله بها ، وتوحيد الله بها .

وذكر الأمر والنهي والحلال والحرام .

وذكر الآلاء والنعماء والإحسان والأيادي .

وأنه ثلاثة أنواع أيضا : ذكر يتواطأ عليه القلب واللسان ، وهو أعلاها ، وذكر بالقلب وحده وهو في الدرجة الثانية ، وذكر باللسان المجرد ، وهو في الدرجة الثالثة .

التالي السابق


الخدمات العلمية