مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

قال صاحب " المنازل " : قال الله تعالى : واذكر ربك إذا نسيت يعني : إذا نسيت غيره ونسيت نفسك في ذكرك ثم نسيت ذكرك في ذكره ثم نسيت في ذكر الحق إياك كل ذكر .

ليته - قدس الله روحه - لم يقل .

فلا والله ما عنى الله هذا المعنى ، ولا هو مراد الآية ولا تفسيرها عند أحد من السلف ولا من الخلف .

وتفسير الآية عند جماعة المفسرين : أنك لا تقل لشيء : أفعل كذا وكذا ، حتى تقول : إن شاء الله . فإذا نسيت أن تقولها فقلها متى ذكرتها . وهذا هو الاستثناء المتراخي الذي جوزه ابن عباس وتأول عليه الآية . وهو الصواب .

فغلط عليه من لم يفهم كلامه ونقل عنه أن الرجل إذا قال لامرأته : أنت طالق ثلاثا ، أو قال : نسائي الأربع طوالق . ثم بعد سنة يقول : إلا واحدة ، أو : إلا زينب - إن هذا الاستثناء ينفعه .

وقد صان الله عن هذا من هو دون غلمان ابن عباس بكثير ، فضلا عن البحر حبر الأمة وعالمها الذي فقهه الله في الدين وعلمه التأويل . وما أكثر ما ينقل الناس المذاهب الباطلة عن العلماء بالأفهام القاصرة .

ولو ذهبنا نذكر ذلك لطال جدا وإن ساعد الله أفردنا له كتابا .

والذي أجمع عليه المفسرون : أن أهل مكة سألوا النبي عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين ، فقال : أخبركم غدا . ولم يقل : إن شاء الله . فتلبث الوحي أياما ثم نزلت هذه الآية . قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم : معناه : [ ص: 404 ] إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت فاستثن . قال ابن عباس رضي الله عنهما : ويجوز الاستثناء إلى سنة .

وقال عكرمة رحمه الله : واذكر ربك إذا غضبت وقال الضحاك والسدي : هذا في الصلاة ؛ أي إذا نسيت الصلاة فصلها متى ذكرتها .

وأما كلام صاحب " المنازل " : فيحمل على الإشارة لا على التفسير . فذكر أربع مراتب :

إحداها : أن ينسى غير الله ولا ينسى نفسه لأنه ناس لغيره ولا يكون ناسيا إلا ونفسه باقية يعلم أنه ناس بها لما سوى المذكور .

الثانية : نسيان نفسه في ذكره ، وهي التي عبر عنها بقوله : ونسيت نفسك في ذكرك . وفي هذه المرتبة : ذكره معه لم ينسه .

فقال في المرتبة الثالثة : ثم نسيت ذكرك في ذكره . وهي مرتبة الفناء .

ثم قال في المرتبة الرابعة : ثم نسيت في ذكر الحق إياك كل ذكر . وهذا الفناء بذكر الحق عبده عن ذكر العبد ربه .

فأما المرتبة الأولى : فهي أول درجات الذكر وهي أن تنسى غير المذكور ولا تنسى نفسك في الذكر ، وفي هذه المرتبة : لم يذكره بتمام الذكر إذ لتمامه مرتبتان فوقه :

إحداهما : نسيان نفسه ، وهي المرتبة الثانية فيغيب بذكره عن نفسه فيعدم إدراكها بوجدان المذكور .

الثانية : نسيان ذكره في ذكره ، كما سئل ذو النون عن الذكر فقال : غيبة الذاكر عن الذكر ، ثم أنشد :


لا لأني أنساك أكثر ذكرا ك ولكن بذاك يجري لساني

وهذه هي المرتبة الثالثة .

ففي الأولى : فني عما سوى المذكور ولم يفن عن نفسه . وفي الثانية : فني عن نفسه دون ذكره . وفي الثالثة : فني عن نفسه وذكره .

وبقي بعد هذا مرتبة رابعة وهي : أن يفنى بذكر الحق سبحانه له عن كل ذكر ، فإنه ما ذكر الله إلا بعد ذكر الله له ، فذكر الله للعبد سابق على ذكر العبد للرب ففي [ ص: 405 ] هذه المرتبة الرابعة : يشهد صفات المذكور سبحانه ، وذكره لعبده ، فيفنى بذلك عن شهود ما من العبد وهذا الذي يسمونه وجدان المذكور في الذكر والذاكر . فإن الذاكر وذكره والمذكور ثلاثة أشياء : فالذاكر وذكره قد اضمحلا وفنيا ، ولم يبق غير المذكور وحده ولا شيء معه سواه ، فهو الذاكر لنفسه بنفسه من غير حلول ولا اتحاد . بل الذكر منه بدأ وإليه يعود .

وذكر العبد لربه محفوف بذكرين من ربه له : ذكر قبله به صار العبد ذاكرا له ، وذكر بعده به صار العبد مذكورا كما قال تعالى : فاذكروني أذكركم وقال فيما يروي عنه نبيه : من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه .

والذكر الذي ذكره الله به بعد ذكره له : نوع غير الذكر الذي ذكره به قبل ذكره له ، ومن كثف فهمه عن هذا فليجاوزه إلى غيره ، فقد قيل :


إذا لم تستطع شيئا فدعه     وجاوزه إلى ما تستطيع

وسألت شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يوما فقلت له : إذا كان الرب سبحانه يرضى بطاعة العبد ويفرح بتوبته ويغضب من مخالفته ، فهل يجوز أن يؤثر المحدث في القديم حبا وبغضا وفرحا وغير ذلك ؟ فقال لي : الرب سبحانه هو الذي خلق أسباب الرضا والغضب والفرح ، وإنما كانت بمشيئته وخلقه ، فلم يكن ذلك التأثر من غيره ، بل من نفسه بنفسه ، والممتنع أن يؤثر غيره فيه فهذا محال ، وأما أن يخلق هو أسبابا ويشاءها ويقدرها تقتضي رضاه ومحبته وفرحه وغضبه : فهذا ليس بمحال ، فإن ذلك منه بدأ وإليه يعود ، والله سبحانه أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية